وإنه لطهارته كان من فيه جميعا في طهارة كاملة حسية ومعنوية ، طهارة الأبدان وطهارة القلوب التي في الصدور ، وإن أشد ما يدرن القلوب الغل والحسد ، والأحقاد الدنيوية ، فإنها أمراض تصيب القلوب ، لتجعل الإنسان في هم مستمر ، وعذاب مقيم ، فكان من مقتضى النعيم الذي أنعم الله به على الأبرار أن يتم عليهم نعمته بأن يكونوا في نعيم في قلوبهم ، كما أن أجسامهم في نعيم ؛ ولذا قال تعالى:{ ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار} .
ونزعنا:أي استخرجنا ، والنزع أقوى من الاستخراج ؛ لأن النزع إخراج ما هو متأشب ( 3 ){[1103]} بالقلب لا يسهل إخراجه ، ولكن الله تعالى ينزعه نزعا ، ويبقى القلب مصقولا بنور المحبة والمودة ، فيتحابون ويتوادون ، ولا يتباغضون ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله تعالى من قلوب المؤمنين ) ( 1 ){[1104]} .
ورد في بعض الآثار أن أهل الجنة إذا سيقوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فإذا شربوا من إحداهما ينزع الله ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلم يشعثوا ، ولم يشيخوا بعدها أبدا ، ولقد قال تعالى:{ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا . . . . . . . . . . . ( 37 )} ( الزمر ) .
هذا النعم معنوي ، وهناك نعيم حسى قال الله تعالى فيه:{ تجري من تحتهم الأنهار} أي أنهم في غرفات تجري الأنهار ، وكأنها تجوس خلالها ، فيكون منظر النهر العذب ينساب انسيابا ، ومنظر الظلال والأشجار ينسرق ( 2 ){[1105]} من تحتها الماء ، ويرزقهم الله تعالى أمرا معنويا هو الاطمئنان إلى الهداية ، وفيها إدراك ما وصلوا إليه بفضل الله تعالى ، وقد حمدوا الله تعالى على ما وصلوا إليه في الدنيا ، وأورثهم الله ثمراته في الآخرة ، فيقولون ما حكى الله تعالى عنهم:{ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} .
إن قولهم هذا سرور وفرح واطمئنان إلى الغاية التي آل إليها أمرهم ، ويقول صاحب الكشاف في هذا:يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا ، وتلذذا بالتكلم به . . . . . . كما ترى من رزق خيرا في الدنيا ، يتكلم بنحو ذلك ، ولا يتمالك أن يقوله للفرح .
وقوله تعالى:{ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} أي ما كان من شأننا ونحن لا نملك من أمرنا شيئا أن نرشد ونهتدي إلى الحق لولا أن هدانا الله تعالى ،
و ( لولا ) يقول النحويون عنها:إنها امتناع لوجود ، ومعنى ذلك لولا هداية الله لامتنعت علينا ، فهو يملك كل أمورنا هو الذي وفقنا وهدانا وأرسل إلينا الرسل هداة مرشدين إلى الحق ؛ ولذا قالوا:{ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} .
النداء لم يذكر فيه المنادى أهو من وحي الله تعالى في نفوسهم أم من الملائكة الأطهار ، والميراث هو العطاء من الله تعالى ، قد جعل هنا خلفا للعمل الصالح ، فهو ملكية ثابتة بالخلافة عن العمل الدائم الذي كان مستمرا في الدنيا ، وهذا قوله تعالى:{ بما كنتم تعلمون} ، أي بالذي كنتم تعملونه مستمرين دائبين عليه ترجون رحمة الله وتخافون عذابه .
والتعبير بقوله تعالى:{ أورثتموها} والميراث عطاء بغير عوض فيه إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي جعل ذلك النعيم عطاء للعمل ، فليس العمل وحده منتجا للعطاء ، إنما هو يجعل النعيم ميراثا للعمل ، والفضل في كل الأحوال لله تعالى صاحب المن والفضل ، ولقد روى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال( اعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة قالوا:ولا أنت يا رسول الله ؟ قال:ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) ( 1 ){[1106]} ، وقد روت عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:( سددوا وقاربوا وبشروا ، فإنه لا يدخل أحد الجنة عمله ) ( 2 ){[1107]} اللهم اغفر لنا وارحمنا .