{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَار} أي نزعنا ما كان في قلوبهم من حقد وضغن مما يكون من عداوة أو حسد في الدنيا فلا يدخلون الجنة في قلوبهم أدنى لوثة مما لا يليق بتلك الدار وأهلها ويكون من أسباب تنغيص النعيم فيها ، تجري من تحتهم الأنهار فيرونها وهم في غرفات قصورهم تتدفق في جناتها وبساتينها فيزدادون حبورا لا تشوبه شائبة كدر .روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل "وروى هو وابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال:إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو شراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا .وروي عن قتادة أن عليا ( كرم الله وجهه ) قال:إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم{ ونزعنا ما في صدورهم من غل} .وعنه أنها نزلت في أهل بدر .أي وإن كان معناها عاما مطلقا .
{ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّه} وقرأ ابن عامر"ما كنا "بغير واو أنه بيان لما قبله وهذا من المخالف لرسم المصحف .أي ويقولون شاكرين لله بألسنتهم المعبرة عن غبطتهم وبهجتهم .الحمد لله الذي هدانا في الدنيا للإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي كان هذا النعيم جزاءهفأدخل اللام على المسبب للعلم بالسببوما كنا لنهتدي أي وما كان من شأننا ولا مقتضى بديهتنا أو فكرتنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله إليه بتوفيقه إيانا لاتباع رسله ومعونته لنا عليها ورحمته الخاصة ، علاوة على هداية فطرته التي فطرنا عليها وهداية ما خلق لنا من المشاعر والعقل .
تالله{ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ} فهذا مصداق ما وعدنا من الجزاء على التوحيد والعمل الصالح{ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} أي ونودوا من قبل الرب تبارك وتعالى بأن قيل لهم:تلكم هي الجنة البعيدة المنال لولا فضل ذي الجلال والإكرام التي وعد بوراثتها الأتقياء ، أورثتموها بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الصالحات فعلامة البعد في اسم الإشارة للبعد المعنوي الذي بيناه ، إذ السياق دال على أن هذا النداء يكون بعد دخولها ، والتبوؤ من غرف قصورها ، وجعله بعض المفسرين حسيا على القول بأن النداء يكون عند ما يرويها منصرفين إليها من الموقف وبعضهم زمنيا مرادا به الجنة الموصوفة على ألسنة الرسل في الدنيا ، وقد بعد عهد ذكرها ، والوعد بها ، وهو وجيه .
تكرر في القرآن التعبير عن نيل أهل الجنة بالإرث .والأصل في الإرث أن يكون انتقالا للشيء من حائز إلى آخر كانتقال مال الميت إلى وارثه وانتقال الممالك من أمة إلى أخرى .وكذا إرث العلم والكتاب قال تعالى:{ ورث سليمان داود} ( النمل16 ) وقال:{ ورثوا الكتاب} ( الأعراف169 ) وقال{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} ( فاطر 32 ) ولا يظهر شيء من هذا في الجنة وإنما يخرج إيراثها هنا وما في معناه وارثها في قوله:{ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس} ( المؤمنون10-11 ) على وجهين أحدهما:أنهم يعبرون بالإرث عن الملك الذي لا منازع فيه .ثانيهما:ما ورد من أن الله تعالى جعل لكل أحد من المكلفين مكانا في الجنة هو حقه إذ طلبه بسببه وسعى إليه في صراطه المستقيم ، وهو الإيمان والإسلام لله رب العالمين ، وهو ما وعد به جميع أفراد أمة الدعوة على ألسنة الرسل ( عليهم السلام ) وورثتهم الناشرين لدعوتهم بالعلم والعمل ، فمن كفر خسر مكانه من الجنة وأعطيه أهل الإيمان والتقوى فما من أحد منهم إلا وله حظ من الإرث .والاستعمالان مجازيان ، وهما متفقان لا متباينان .
أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي في تفسير الآية قال:ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ، ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون .فيقتسم أهل الجنة منازلهم .وروي نحوه عن ابن شوذب في تفسير{ تلك الجنة نورث من عبادنا من كان تقيا} ( مريم 63 ) ووري مثله موقوفا ومرفوعا في تفسير{ أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس} ( المؤمنون 10- 11 ) أخرج سعيد بن منصور وابن ماجه ورواة التفسير المأثور الأربعة أبناء جرير والمنذر وأبي حاتم ومردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله "فذلك قوله:{ أولئك هم الوارثون}{[1169]} ( المؤمنون 10 ) .
والآية صريحة في كون الجنة تنال بالعمل وفي معناها آيات كثيرة بباء السببية بعضها بلفظ الإرث وبعضها بلفظ الدخول .وأما حديث أبي هريرة في الصحيحين"لن يدخل أحدا عمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته "{[1170]}وله تتمة وروي بلفظ آخر فمعناه:أن عمل الإنسان مهما يكن عظيما لا يستحق له الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله إذ جعل هذا الجزاء العظيم على هذا العمل القليل فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته ، ولذلك قال بعده"فسددوا وقاربوا "أي لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم ولا تتكلفوا من العمل ما لا تطيقون .وقيل معناه يدخلونها بفضله ويقتسمونها بأعمالهم .