وهناك حوارٌ آخر يدور بين أهل الجنة وأهل النار ،يتدخّل فيه أهلُ الأعراف ليحاوروا أهل النار بطريقةٍ إنكاريةٍ تأنيبيّةٍ .وتنطلق الآيات في هذا الجوّ لتثير أمام الإنسان بعض المفاهيم والمواقف ،وتوضح بعض المظاهر الاستعراضية التي لا زال البعض يمارسونها في الحياة الدنيا ،فينخدع بها بعض البسطاء في أجواء الغفلة والنسيان .
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} .الآية توحي أن هناك منطقةً يشرف فيها أهل الجنة على أهل النار ،فيرون بعضهم بعضاً ،ويسمع أحدهم الآخر ...وربما كان بين هؤلاء وأولئك علاقة معرفةٍ أو قرابةٍ أو جوار في الدنيا ،وربما كان بينهم هناك حوارٌ في قضايا الإيمان والكفر وما يؤدّيان إليه من جنة أو نار .وكان الكفّار ينكرون ذلك كله ويسخرون باليوم الآخر ،بينما كان المؤمنون يؤكدون ذلك ويخوفونهم ويحذرونهم من نتائج أعمالهم ...ومرّت الأيام ،وها هم يلتقون في الدار الآخرة ،ولكلٍّ موقعه في الجنة أو النار ،ويطَّلع أهل الجنّة على أهل النار ويسألونهم{أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} فها نحن نتقلب في نعيم الجنة ورضوان الله ،كما وعدنا الله من خلال رسله ؛{فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} في ما توعّدكم به من عذاب النار جزاءَ كفركم ؛فها أنتم تجدون أنفسكم في النار كما وعدكم رسل الله .وهو سؤال للإنكار أو للتقرير ،لا للاستفهام .{قَالُواْ نَعَمْ} في خشوع وذلةٍ واستكانةٍ ،{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} وقد لا يكون للحديث عن هذا المؤمن باسمه أثر كبيرٌ في الأجواء التي تثيرها الآية ،فلا نريد أن ندخل في ما دخل فيه المفسّرون من خلاف حول ذلك ،لأن الظاهر هو التركيز على الفكرة الموحية بإبعاد الله لهؤلاء الظالمين عن رحمته في ما تمثله اللعنة من هذا المعنى .
وتأتي الآية الثانية لتوضح المقصود من هذه الكلمة:{الظَّلِمِينَ} ؛فليس المراد بها الظلم في الاعتداء على حقوق الناس ،بل المراد بها الاعتداء على حقوق الله في العقيدة الحقة والنهج المستقيم ،مما يعتبر ظلماً للنفس من جهة ،وظلماً لله من جهةٍ أخرى .