{فَلَنَقُصَّنَّ} نتلونّ ،والقصص ما يتلو بعضه بعضاً ،ومنه المقص لأن قطعه يتلو بعضه بعضاً ،ومنه القصة من الشعر والقصة من الكتاب ،ومنه القصاص لأنه يتلو الجناية في الاستحقاق ،ومنه المقاصّة في الحق لأنه يسقط ما له قصاصاً بما عليه .
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} لا على أساس تخمينٍ وحدسٍ كما يحدث في أقاصيصكم التي قد ترتكز على كثيرٍ من أفانين الظن والخيال{وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} فإن الله حاضر في الزمن كله ،كما أن الزمن كله حاضرٌ أمام الله .إن الزمن يرافقنا أوّلاً ثم يتركنا ثم يستقبلنا ونستقبله ،ولكن الله هو الذي خلق الزمان ،وخلق الحياة التي يتحرك فيها الزمن ؛فحضوره هو الحضور ،وكل ما عداه هو ظلٌّ زائل .
هل يأتي العذاب بعد الإهلاك ؟
لقد توقف المفسرون أمام فقرة{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً} لأن الظاهر أن الفاء للتعقيب ،مما يعني أن ما بعدها يأتي متأخراً عما قبلها ،فكيف يكون مجيء العذاب بعد الاهلاك مع أن القضية بالعكس ؟
وقد ذكر في الجواب عن هذه الملاحظة عدة وجوه:أحدها: ما ذكره الزمخشري في أن المقصود بأهلكناها «أردنا إهلاكها » لا الإهلاك الفعلي .ثانيها: أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا ولعله قريب من الأول .والثالث: انه مثل: زرتني فأكرمتني ،فإن نفس الإكرام هي الزيارة ،قال علي بن عيسى: وليس هذا مثل ذلك ،لأن هذا إنما جاز لأنه قصد الزيارة ثم الإكرام بها .
وربما كان الأقرب أن المسألة واردة على نحو الاجمال والتفصيل ،بأن يكون المقصود هو الحديث عن الإهلاك أولاً على نحو الإجمال ثم الحديث عن تفعيل ذلك بمجيء العذاب في الليل أو في وقت القيلولة كتفصيل للإهلاك ؛والله العالم .
من وحي هذه الآيات
وقد نستوحي من هذه الآيات إثارة الخوف من عذاب الله في وجدان الناس الذين يتمردون على الله ويستهينون بإنذاره ،وذلك من خلال الحديث عن التاريخ الذي عاش فيه المتمردون السابقون ،حيث لم ينفعهم ما كانوا يملكونه من وسائل القوة ،مما يمتد إلى الإنسان المعاصر الذي قد يملك الكثير من قوّة الحماية بالمكتشفات الحديثة ،ولكنه لا يملك الوسائل التي تحميه من الزلازل والعواصف والبراكين والفيضانات ونحوها ،وهيفي نتائجها التدميريةقد تكونفي بعض الحالاتمظهراً من مظاهر عذاب الله ،الأمر الذي يجعل البأس الإلهي شاملاً لكل العصور ولكل مواقع القوة عند الإنسان .
كيف نفهم سؤال الله الرسل والناس ؟
وربما يثار أمامنا سؤال: كيف نفهم سؤال الرسل والناس الذين أرسلوا إليهم ،لأن السؤال يتحرك في نطاق إرادة السائل معرفة ما عمله المسؤول ،والله العالم بكل تفاصيل اعمال عباده لأنه المحيط بهم من كل الجهات ؟
والجواب: إن الظاهر هو ورود الآية مورد إثارة الإحساس بالمسؤولية في وعي الناس بأنهم سيواجهون غداً الموقف الحاسم في ساحة المحكمة الإلهية التي يقيم فيها الله الحجة على الناس من خلال اعترافاتهم بما قدّموه من أعمال الخير والشرّ ،فيعلم الجميع بأن الله لا يظلم الناس شيئاً من أعمالهم في جانب السلب والإيجاب ،ثم من خلال تقرير المرسلين عن مهمتهم الرسالية ،كيف بلّغوا الأمم التي أرسلوا إليها بوحي الله بما أنذروا وبشروا ،وماذا أجابهم أولئك بالايمان أو الكفر ،فيكون الرسل شهوداً عليهم ،فلا يبقى لديهم ما يعتذرون به .
وربما كانت القضيةفي الآيةواردة في سياق الحديث عن المسؤولية الإلهية التي يواجهها الناس من أمم أو رسل ،لأن الحساب شامل للجميع ،بقطع النظر عن موقعهم من الله ،فإن السؤال يفصح عن الإخلاص والصدق في أجوبة المخلصين الصادقين ،كما يُظهر زيف المزيفين وكذب الكاذبين ،ليعرف الجميع أن الخلق متساوون أمام الله يوم القيامة ،لا فرق بين الناس والرسل في ذلك كله .
ولذلك ،فليس هناك استعلام من الله لعباده ،بل هو توجيه لما يقبلون عليه في وقوفهم بين يديه ،لإثارة وعي المسؤولية في وجدانهم الفكري ،وتجربتهم العملية ،وإقامة الحجة عليهم في كل أمورهم .
وقد يطرح سؤال آخر: كيف يمكن التوفيق بين التأكيد على شمولية السؤال للناس والمرسلين وبين قوله تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسَْلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ*فَبِأَىِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالاَْقْدَامِ} [ الرحمن:3941] ،ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ؟!
وقد أجيب عن هذا السؤال بعدة أجوبة ،( منها ): ما ذكره صاحب مجمع البيان: «أنهسبحانهنفى أن يسألهم سؤال استرشاد واستعلام ،وإنما يسألهم سؤال تبكيت وتقريع ،ولذلك قالعقيبه{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهم} ،وسؤال الاستعلام مثل قولك: أين زيد ؟ومن عندك ؟وهذا لا يجوز على الله سبحانه .وسؤال التوبيخ والتقريع كمن يقول: ألم أحسن إليك فكفرت نعمتي ؟ومنه قوله:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} [ يس:60] ،{أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [ المؤمنون:105] ،وكقول الشاعر: «أطرباً وأنت قنسري » أي كبير السن ،وهذا توبيخ منه لنفسه ،أي كيف أطرب مع الكبر والشيب ،وقد يكون السؤال للتقرير كقول الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم كذلك ،وفي ضده قوله: «وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر » أي لا يصلح .وأما سؤال المرسلين فليس بتقريع ولا توبيخ لهم ولكنه توبيخ للكفار وتقريع لهم .
( وثانيها ) أنهم إنما يُسألون يوم القيامة كما قال:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [ الصافات: 24] ثم تنقطع مسألتهم عند حصولهم في العقوبة وعند دخولهم النار ،فلا تنافي بين الخبرين ،بل هو إثبات للسؤال في وقت ونفي له في وقت آخر .
( وثالثها ) أن في القيامة مواقف ،ففي بعضها يسأل وفي بعضها لا يُسأل ،فلا تضاد بين الآيات ...» .
( ومنها ) أن الآيات النافية للسؤال إشارة إلى المساءلة الشفاهية ،والآيات المثبتة إشارة إلى المساءلة التي تقع على الجوارح وهي تتكلم بلسان الحال ،مثل حمرة وجه الإنسان خجلاً من انكشاف الحال في إجرامه البارز عند ظهور الحقائق .
وربما كان الأقرب للسياق في آيات نفي السؤال أنها واردة في مورد التأكيد على أن الله يعلم ذنوب المذنبين وإجرام المجرمين ،فلا حاجة به إلى سؤالهم للتعرف على ذلك ،مع وضوحها عندهم من خلال ما يعرفونه من أنفسهم وما يقرأونه في كتاب الأعمال الذي يراد للإنسان قراءته ليكون الحسيب على نفسه بنفسه ،ويتطلع المجرمون إلى ما فيه فيجدونه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .ولذلك فإن هناك وضوحاً في قيام الحجة عليهم المبررة لعذابهم .أما آيات السؤال فهي واردة لإقامة الحجة عليهم بإظهار أعمالهم من خلال اعترافاتهم ،فلكل آية سياق يختلف عن سياق الآية الأخرى ؛والله العالم بحقائق آياته .
من هم الذين يشعرون بالحرج تجاه القرآن ؟
إننا نقف أمام هذه الآيات التي أرادت للنبي ومن معه أن لا يضيقوا بالقرآن الذي يحملهم مسؤولية المواجهة والانفتاح على ساحة الصراع ،لنستوحي من ذلك حركة الإنسان الرسالي في الواقع الذي يعيش هموم القرآن في آياته ومفاهيمه وحركيته ،ويحمل في وجدانه هموم التغيير من أجل تحويل خط الانحراف إلى خط الاستقامة ،ليعيش الإنسان مع الله في كل حياته المادية والمعنوية من خلال الالتزام بوحيه في كل خطوطه العقيدية والتشريعية والمنهجية والحركية .بكلام آخر ،على الإنسان الحركي أن يعرف جيداً كل ما يمكن أن تنتجه له الرسالة في حركة الواقع والمواجهة ،من آلام وتضحيات وجراحات جسدية أو روحية ،وأن يعي في وعيه الإسلامي للحياة أن هناك أكثر من مرحلة لا بد أن يقطعها العاملون ،في سبيل الوصول إلى النتائج الإيجابية الحاسمة بعد جهد طويل ،ولذلك يجب أن لا يعيشوا الضيق النفسي والسقوط الروحي أمام الصعوبات والتحديات الكبرى ،بل عليهم أن يواجهوها بعقل منفتح وصدر رحب وحركة واعية .
أمّا الذين يعيشون الحياة حركة في داخل الذات ،ويحملون الرسالة في معنى المهنة ،ويرون في التضحيات خسارة ،وفي التعب مشكلة ،وفي العقبات يأساً ،ويعملون على البحث عن المبررات أو التبريرات لكل تراجع وتخاذل وهزيمةٍ ،ليتخففوا من مسؤولياتهم في الدعوة وفي العمل ،أمّا هؤلاء فهم الذين يختنقون بالضيق النفسي ،والحرج الشعوري ،ويضيقون ذرعاً بكل مشكلة في الطريق ،ويبتعدون عن هموم الساحة ليقتربوا من هموم الذات من أجل الاسترخاء في لذّات الحياة وشهواتها بعيداً عن الرسالة والرساليين .