{إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} الذي يؤدي به إلى الله من خلال ما يدركه عقله وما يتحرك فيه سمعه وبصره ،وما يوحي به الله إليه ،أو يلهمه معرفته بفطرته الصافية ...ومنحناه حرية الاختيار بين الخير أو الشرّ ،سواء في الالتزام بطاعة الله كتعبيرٍ حيٍّ عن شكره له من ناحيةٍ عمليةٍ ،أو الالتزام بمعصيته كتجسيدٍ حيٍّ للكفر بالنعمة ،من ناحيةٍ واقعيةٍ .
{إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} فهو بين هذين الخطين ،وما ينفتح عليه من خيارات من دون أن يواجه أيّ ضغطٍ تكوينيٍّ في إبعاده عن عملية الاختيار .
وإذا أردنا أن نواجه مسألة الاختيار بين شكر النعمة باختيار الإيمان ،وكفرها باختيار الكفر والعصيان ،فإننا نلاحظ أن الناس بين مَنْ يستجيب لنداء فطرته التي تمثّل سرّ العمق في تكوينه ،أو لإِرشاد عقله الذي يوازن بين الحسن والقبح في حقائق الأشياء ،أو للاستماع إلى وحي الله وحديث الأنبياء اللذين يفتحان حياة الإنسان على معرفة الخير والشر ،والصلاح والفساد ،ليختار الصلاح بدلاً من الفساد ،وليتبع الخير بدلاً من الشرّ ،وبين من لا يستجيب لذلك كله من خلال العوامل الطارئة في حركة الغريزة لديه ،أو في نوازع الذات في شخصه ،أو في نقاط الضعف في حياته ،أو في طبيعة الظروف الضاغطة المحيطة به .
وهكذا يقف الإنسان وجهاً لوجه أمام مسألة الهداية ،في عنصرها الإيجابي أو السلبي ،ليواجه مصيره على أساس مسألة الاختيار لديه .فإن الله لم يضغط عليه ليحوّل إرادته إلى ما يحبه له بالضغط التكويني الذي يشلّ إرادته ويمنعها عن الحركة ،ولكنه أثار أمامه النتائج الأخروية ،في مسألة الثواب والعقاب ،ليضغط عليه ضغطاً معنوياً في جانب الإحساس ،ليكون اختياره خاضعاً للتفكير بالنتائج ،كما هو خاضع للجانب الموضوعي الذي تتحرك فيه الأشياء .