{تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ}: التقتا ،ورأت كل منهما الآخرى .
{نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ}: النكوص: الإحجام عن الشيء .و{عَلَى عَقِبَيْهِ}: حال .والعقب مؤخر القدم .ولذا يكون معنى نكص على عقبيه كناية عن الرجوع القهقرى إلى الوراء ،أي الانهزام .
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} في ما وسوس لهم من أفكار ومشاعر وأهداف ،فانحرف بهم عن الاتجاه الصحيح ،فالتبس عليهم الباطل بالحق ،والخير بالشر ،والحسن بالقبيح ،فزيّن لهم أعمالهم الشريرة ،وصوّر لهم أنهم في موقع القوة المطلقة التي لا تغلب .{وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} لأنكم تملكون من العدد والعدّة ما لا يملكون .فهم في موقع الضعف ،وأنتم في موقع القوّة ،فلا تخافوا من الهزيمة .{وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} أجيركم من كل سوء ،وأمنحكم القوّة عند الضعف ،وأثبتكم عند الاهتزاز .
{فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} ووقفتا في موقف المجابهة الحاسم ،وظهرت الغلبة للمسلمين على المشركين ،وبرز الإمداد الإلهي في أكثر من مظهر ،{نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} ورجع القهقرى منهزماً في عمليةٍ تراجعيةٍ واضحةٍ ،وفي حركة هروب من المسؤولية ؛وتخلّى عن كل وعوده .{وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ} فليست لي علاقة بكم من قريب أو بعيد ،لأن المسألة بالغة التعقيد ،لما تحمله من نتائج المسؤولية .{إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ} مما يوحي بالهول والرعب والفزع والهزيمة{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} في عقابه وعذابه .{وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
وقد تحدثت الروايات الواردة في أسباب النزول عن تمثّل الشيطان بصورة شخصٍ يدعى سراقة ،وعن حديثه مع قريش في المعركة ،بالطريقة التي تحدّثت بها الآية ،في ما وعدهم به في البداية وما خوّفهم منه في النهاية .وقد أنكرها بعض المفسرّين لضعف أسانيد الرواية ،وحمل الآية على التصور الشيطاني الذي كان يسيطر على قريش في ما كان يوسوس لهم من الإحساس بالعظمة والزهو والكبرياء ،والشعور بالقوة المطلقة التي لا غالب لها ...ثم تتابعت الأحداث لتقلب الوضع رأساً على عقب ،ولتواجههم بالهزيمة التي تتضاءل معها شياطينهم وما توسوس به وتدفع إليه ،تماماً كما ورد في الآية الكريمة:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [ الحشر:16] ،فإنّ الظاهر ورودها مورد الحديث عن الطريقة الشيطانية في الإضلال ،حتى إذا وقع الإنسان في الضلال ،ابتعد عنه ،وتركه يواجه المسؤولية بنفسه .وهذا ما عبرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [ إبراهيم:22] وهكذا نجد هذه الآيات تتحرك في جوٍّ واحدٍ ،وإن اختلفت أساليبه .وقد ناقشه بعض المفسرين ،فاعتبروا أن ما دلّت عليه الروايات ليس بمستحيل ،فلا مانع من أن يتمثل الشيطان بصورة رجلٍ ليتحدث مع الناس ويتحدّثوا معه من دون أن يبيّن لهم شخصيته .فإذا كان هذا الأمر ممكناً ،فلا من بد أن يحمل ظاهر القرآن عليه ،ولا مانع من ذلك على الأقلّ .
ولكننا نناقش الموضوع من ناحيةٍ أخرى غير ناحية الاستبعاد ،لأنها لا تنهض حجةً على صرف الآية عن ظاهرها ،وهي أن الآية توحي بأنّ دور الشيطان كان دور التشجيع وحشد القوة في داخلهم ،لأنهم كانوا يعيشون حالةً من الخوف والضعف ،ولهذا حاول تقويتهم بقوله:{وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} ليستريحوا إلى جواره وليأمنوا به .ولكن واقع المعركة الذي نعرفه من القرآن ،ومن التاريخ ،ومن طبيعة موازين القوى بين المسلمين والمشركين ،يدلُّنا على أن المشركين كانوا لا يشكون ضعفاً في العدد والعدة ،فما حاجتهم للتشجيع وللتقوية ؟!ثم لو كان الذي تفرضه الرواية صحيحاً ،فما دور سراقة ،وما أهميته ليجير قريشاً ،فتطمئن له وتعيش الأمن من خلاله ،لأن الشيطانفي مضمون الروايةلم يكشف لهم عن شخصيته ؟!ونحن لا نجد جواباً على هذه التساؤلات .ثم ما معنى أن نفرض على القرآن تفاصيل معينةً على أساس رواياتٍ غير صحيحة ،لعدم ثبوت وثاقتها ؟!ولماذا هذا التساهل في تفسير القرآن ،الذي يمثِّل الحقيقة الفاصلة القاطعة ،من خلال ظنونٍ لا تثبت أمام النقد العلمي ؟!ولهذا فإننا نتفق مع الذين يستقربون ورود الآية مورد توضيح التصور الشيطانيّ ،الذي يوحي للإنسان بالهلاك في صورة النصر ،ثم يغيّر الصورة في عملية هروب وتراجعٍ ؛والله العالم .