{ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني لكم جار لكم} أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم:لا غالب لكم اليوم من الناس لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا ، وإني مع هذاأو الحال إنيجار لكم ، قال البيضاوي في تفسيره:وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين اه .
{ فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه} أي فلما قرب كل من الفريقين المقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه نكص أي رجع القهقرى وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين ( أي مؤخري الرجلين ) وأخطأ من قال من المفسرين إن المراد بالترائي التلاقي ، والمراد إنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم ، فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره .ثم زاد على هذا ما يدل على براءته وتركه إياهم وشأنهم وهو{ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة{ والله شديد العقاب} يجوز أن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفا .
تفسير الآية بوسوسة الشيطان وإغوائه للمشركين وتغريره بهم قبل تقابل الصفوف وترائي الزحوف وبتخليه عنهم بعد ذلك رواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن البصري ، وخرجه علماء البيان من المفسرين كالزمخشري والبيضاوي بنحو مما ذكرنا وهو لا يخلو من تكلف من الجمل الأخيرة إلا أن يقال إنه لما نكص على عقبيه تبرأ منهم وقال ما قال في نفسه لا لهم ، ومثل هذا الخطاب لا يتوقف على سماع المخاطبين له حتى في خطاب الناس بعضهم لبعض ومثله قوله تعالى:{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله} [ الحشر:16] قال ابن عباس لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم .فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ( نكص على عقبيه ) قال رجع مدبرا وقال ( إني أرى مالا ترون )الآية .ومثله قال الحسن .
أقول:معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم كما تقدم شرحه في تفسير آية 12{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الخ فلما تراءت الفئتان وأوشك أن يتلاحما فر الشيطان بجنوده من بين المشركين لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين وهما ضدان لا يجتمعان ولو اجتمعوا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما ، فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .
وقد بينا في مواضع من هذا التفسير وغيره أن العوالم الروحية الخفية كعوالم العناصر المادية منها المؤتلف والمختلف ، ومنها ما يتحد بغيره فيتألف منهما حقيقة واحدة كحقيقة الماء والهواء ، ومنها مالا يتحد بعضه ببعض ولا يجتمعان في حيز واحد{ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، والطبيات للطيبين ، والطيبون للطيبات} [ النور:26]{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [ الأنعام:112] .
وعن ابن عباس قول آخر هو أن الشيطان تمثل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج وقال للمشركين ما قصته الآية الكريمة أولا وآخرا .قال ابن إسحاق حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما حضر القتال ورأى الملائكة نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم ، فتشبت به الحارث بن هشام فنخر في وجهه فخر صعقا ، فقيل له ويلك يا سراقة على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا ؟ فقال:{ إني بريء منكم} الخ وروي عنه علي بن أبي طلحة ما أوله مثل رواية ابن جرير إلا أنه زاد « في صورة رجل من بني مدلج » وذكر فيها أنه رأى رمى النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بقبضة من التراب فهزيمتهم منها ثم قال:فأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته ، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال{ إني أرى مالا ترون} الخ .
أقول:أما الكلبي فروايته التفسير عن ابن عباس هي أو هي الروايات وأضعفها كما قال المحدثون .وقالوا فإن انضم إليها رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب .وأما علي بن أبي طلحة فروايته عنه أجود الروايات إلا أنهم أجمعوا على أنه لم يسمع منه وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير ولا خلاف في كونهما من الثقات أئمة هذا الشأن ولكن ابن عباس كان يوم بدر ابن خمس سنين فروايته لأخبارها منقطعة ولا يبعد أن تكون من الإسرائيليات .
وروى ذلك الواقدي عن عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس والواقدي غير ثقة في الرواية .وروي أيضا عن غير ابن عباس ، وفي الروايات شيء من الاختلاف ، وأصلها أنه كان بين قريش وبين بني بكر عداوة وحرب سابقة فخافوا أن يقاتلوهم في أثناء قتالهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فرئي سراقة أكبر زعمائهم مع المشركين يضمن لهم ما كاد يثنيهم عن الخروج .وخرج معهم يثبتهم ويقول:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، ثم رئي عند ترائي الفئتين هاربا متبرئا منهم فلما رجع فلهم إلى مكة كانوا يقولون هزم الناس سراقة .فقال بلغني أنكم تقولون إني هزمت الناس ! فوالله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم .فقالوا ما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم .فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان .فهذا والله أعلم سبب تخريج هؤلاء المفسرين رواياتهم على أن الذي رئي إنما كان الشيطان متمثلا .والمختار عندنا في تفسير الآية هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس من طريق ابن جريج وهو ما علمت آنفا وما رواه عن الحسن أيضا وقدمه أهل التفاسير المشهورة وهو أن الشيطان ألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبهم الخ وتقدم .