{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} ،كان الوأد ،وهو دفن البنت وهي حيّة ،يمثل أحد الأوضاع الوحشية في ممارسات الجاهليين العرب بحق الأنثى ،انطلاقاً من التصوّر المتخلف المنحرف عن المرأة الذي نقله القرآن عنهم في قوله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [ النحل:5859] ،وكانت لديهم عدة طرق في الوأد ،فمنهم من كان إذا ولدت له بنت ،يتركها حتى تكون في السادسة من عمرها ،ثم يقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها !وقد حفر لها بئراً في الصحراء ،فيبلغ بها البئر ،فيقول لها انظري فيها ،فيدفعها دفعاً ،ويهيل التراب عليها ،ومنهم من كان إذا جاء المخاض زوجته ،جلست فوق حفرة محفورة ،فإذا كان الولد بنتاً رمت بها فيها وردمتها ،وإن كان ابناً قامت به معها ،وغيرها من الأساليب .
وهكذا كان هذا الظلم الوحشي الجاهلي موضع الرفض الشديد من قِبَل الإسلام في ما أنزله الله على رسوله من آيات ،وواجهه مواجهةً عنيفةً ،حتى قضى عليه ،حيث اعتبر الفعل جريمةً وحشيةً ككل الجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص ،من دون فرقٍ بين أن يكون الفاعل أباً أو غيره ،لأن الأبوّة لا تبرّر للأب أن يمارس أيّ عمل تعسفيٍّ مع أولاده .وقد أكد الفكرة من خلال القاعدة التي تساوي بين الرجل والمرأة في المعنى الإنساني ،وفي المسؤولية الشرعية ،فلا فرق بين انحراف الرجل وانحراف المرأة في عقاب الزاني والزانية ،كما أن مسألة الشرف والعار تتصل بكل منهما في نطاقه الشخصي ،فلا ينعكس على أيِّ إنسانٍ آخر ،فلكل إنسانٍ شرفه وعاره ،{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [ الإسراء:15] ،وانطلق التشريع ليؤكد ذلك في كل قضايا الحياة المتصلة بالرجل والمرأة ،ولم يفرق بينهما في مستوى القيمة ،فجعل الكرامة لعنصر التقوى الذي قد يجعل المرأة أفضل من بعض الرجال ،أما وجود بعض الفوارق في بعض التشريعات ،فإنها متصلة بالهيكل التنظيمي للعلاقات الزوجية ،ولبعض الأوضاع العامة في نطاق المسؤولية ،من باب توزيع الأدوار من خلال الطبيعة المتنوّعة في تكوين الرجل والمرأة ،لا من خلال الانتقاص من طبيعتها ،ممّا تحدّثنا عنه كثيراً في هذا التفسير .
وهكذا تقف الموءودة في يوم القيامة مع الذي وأدها في الدنيا ،ليُطرح السؤال عليها: هل هناك ذنب جنته لتدفن حيّة ،وهي في السّنّ التي لا تحمل فيها أية مسؤوليةٍ ؟وإذا كانت في مثل هذه السّنّ ،فإن أنوثتها لا تصلح لأن تكون ذنباً ،ولم تفعل أي شيءٍ آخر .ولم يكن هذا السؤال للاستفهام ،بل لتسجيل الموقف العادل في المسألة ،لأن المسألة لا تملك احتمالاً آخر ،فإن العدالة هي التي تقتص من الفاعل انطلاقاً من شعار يوم القيامة{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ} [ غافر: 17] ،لا سيما إذا كان المظلوم ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً .