وقوله:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأه أبو الضحى مسلم بن صبيح ( وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ ) بمعنى:سألت الموءودة الوائدين:بأي ذنب قتلوها.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني أبو السائب، قال:ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، في قوله:( وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ ) قال:طلبت بدمائها .
حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري، قال:ثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، قال:قال أبو الضحى ( وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ ) قال:سألت قَتَلَتها .
ولو قرأ قارئ ممن قرأ ( سألَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ ) كان له وجه، وكان يكون معنى ذلك من قرأ ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) غير أنه إذا كان حكاية جاز فيه الوجهان، كما يقال:قال عبد الله:بأيّ ذنْبٍ ضُرب؛ كما قال عنترة:
الشَّــاتِمَيْ عِـرْضِي ولـم أشْـتُمْهُما
والنَّـــاذِرَيْنِ إذَا لَقِيتُهُمــا دَمــي (3)
وذلك أنهما كانا يقولان:إذا لقينا عنترة لنقتلنَّه، فحكى عنترة قولهما في شعره؛ وكذلك قول الآخر:
رَجُــلانِ مِــنْ ضَبَّــةَ أخْبَرَانـا
أنَّـــا رأيْنــا رَجُــلا عُرْيانــا (4)
بمعنى:أخبرانا أنهما، ولكنه جرى الكلام على مذهب الحكاية. وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الأمصار:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) بمعنى:سُئلت الموءودة بأيّ ذنب قُتلت، ومعنى قُتلت:قتلت غير أن ذلك ردّ إلى الخبر على وجه الحكاية على نحو القول الماضي قبل، وقد يتوجه معنى ذلك إلى أن يكون:وإذا الموءودة سألت قتلتها ووائديها، بأيّ ذنب قتلوها؟ ثم ردّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله، فقيل:بأيّ ذنب قتلت.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ ذلك ( سُئِلَتْ ) بضم السين ( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) على وجه الخبر، لإجماع الحجة من القراء عليه. والموءودة:المدفونة حية، وكذلك كانت العرب تفعل ببناتها؛ ومنه قول الفرزدق بن غالب:
وِمَّنـا الـذي أحْيـا الوَئِيـدَ وَغـائِب
وعَمْــروٌ, ومنَّــا حـامِلونَ ودَافـعُ (5)
يقال:وأده فهو يئده وأدا، ووأدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد، قال:ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) هي في بعض القراءات:( سأَلَتْ * بِأيّ ذَنْب قُتلَتْ ) لا بذنب، كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال:ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال:جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، قال:"فأعْتِقْ عَنْ كُلّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً".
حدثنا ابن حميد، قال:ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) قال:كانت العرب من أفعل الناس لذلك .
حدثنا أبو كُرَيب، قال:ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم بمثله.
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد في قوله:( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) قال:البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهنّ، وقرأ:( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) .
--------------------
الهوامش:
(3) البيت لعنترة ، وهذه الرواية مختلفة عن روايته التي رواها المؤلف في الجزء ( 29:208 ) وهي:"والناذرين إذا لم ألقهما دمى ". بنفي الفعل ، وهي كذلك في ( شرحي الزوزني والتبريزي للمعلقات ، ومختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي 380 ) . أما رواية بيت الشاهد في هذا الموضع فمصدرها الفراء في معاني القرآن ( الورقة 359 ) فهكذا أنشد البيت الفراء في تفسير قوله تعالى:{ وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} وقد نقلنا كلامه في توجيهها تحت الشاهد الآتي:"رجلان من ضبة ... "البيتين . ومعنى الروايتين في الحقيقة يؤول إلى شيء واحد وإن اختلف اللفظ بين الإثبات والنفي .
(4) البيتان من شواهد الفراء في معاني القرآن ( 359 ) قال بإسناده عن ابن عباس:إنه قرأ:{ وإذا الموءودة سألت بأي ذنب قتلت} وقال:هي التي تسأل ( بفتح التاء ) ولا تسأل ( التاء مضمومة ) . وقد يجوز أن تقرأ:أي ذنب قتلت ؟ ( التاء الأخيرة تاء الفاعل مفتوحة ، والفعل مبني للفاعل ( كما نقول في الكلام ) عبد الله بأي ذنب ضرب، وبأي ذنب ضربت ؟ وقد مر له نظائر من الحكاية ، من ذلك قول عنترة:
الشَّــاتِمَيْ عِـرْضِي ولـم أشْـتُمْهُما
والنَّـــاذِرَيْنِ إذَا لَقِيتُهمــا دَمــي
والمعنى:أنهما كانا يقولان:إذا لقينا عنترة لنقتله ، فجرى الكلام في شعره على هذا المعنى ، واللفظ مختلف . وكذلك قوله:"رجلان من ضبة ... "البيتان . والمعنى:أخبرنا أنهما ... إلخ ولكنه جرى على مذهب القول ، كما تقول:قال عبد الله:إنه ذاهب ، وإني ذاهب ، والذهاب له في الوجهين جميعا . ومن قرأ:{ وإذا الموءودة سئلت} ففيه وجهان:سئلت هي ، فقيل لها:بأي ذنب قتلت ؟ ثم يجوز قتلت ، كما جاز في المسألة الأولى . ويكون "سئلت "سئل عنها وائدوها ، كأنك قلت:طلبت منهم ، فقيل:أين أولادكم ؟ وكيف قتلتموهم . وكل الوجوه حسن بين ، إلا أن الأكثر "سئلت "فهو أحبها إلي . ا هـ .
(5) البيت للفرزدق ( ديوانه طبعة الصاوي 517 ) ولكنه ملفق من البيتين الخامس والسابع في القصيدة ، وهما:
5 - ومِنَّـا الـذي أحْيـا الوَئِيدَ وغالِبٌ
وَعمُــروٌ وَمِنَّـا حـاجِبٌ والأقـارِعُ
7 - نَمَـوْنِي فأشْـرَفْتُ الْعَـلايَةَ فَوْقَكُمْ
بُحُــورٌ ومِنَّــا حــامِلُون وَدَافِـعُ
والبيت أورده المؤلف بهذه الصورة شاهدا عند قوله تعالى:{ وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} وأنشد أبو عبيدة عند الآية شاهدا آخر للفرزدق أيضا ، وهو:
وَمِنـــا الَّــذِي منــع الْوَائِــدَاتِ
وأحْيــا الْوَئِيــدَ فَلَــمْ يُــوءَدِ
قال:وهو صعصعة بن ناجية جده .