{يا أَيُّهَا الإِنسَانُ} الذي عاش في عمق الشعور بإنسانيته ،في ما توحي به من معنى التكريم في الدور الوجودي في واقع الحياة ،وفي ما أنعم الله عليه من لطفه وكرمه في تفاصيل حياته ،{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} حتى اندفعت في التمرد عليه ،وإنكار توحيده ،وعصيان أوامره ونواهيه ،وكفران نعمه ،واستغرقت في ذلك غير عابىء بإنذاراته الكثيرة ،فما الذي{غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} الذي حرّك كل طاقاتك ومنحها الحيويّة والنموّ بكرمه ،حتى قصّرت هذا التقصير ،وابتعدت هذا البعد عنه ؟!وكيف توهّمت أن الله لا يؤاخذك على ذلك كله فأَمِنْت عقابه ،ولم تراع احتمال القدوم عليه والوقوف بين يديه ؟وكيف استهنت بوعيده وتهديده ؟وربما كان الاستفهام هنا توبيخيّاًكما عن البعضلا حقيقياً ،كما لو كان المعنى هو توبيخ الإنسان على كفران نعمة الرب الكريم في ما لا يجوز فيه الكفران لموقع كرمه الواسع .
وروي أن النبي( ص ) لما تلا هذه الآية قال: غرّه جهله[ 1] .وجاء في مجمع البيان أنه قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه ،فقال: ما غرّك بربك الكريم ،ماذا كنت تقول له ؟قال: أقول: غرّني ستورك المرخاة .وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني الله بين يديه فقال: ما غرّك بي ؟قلت: غرني بك برّك بي سالفاً وآنفاً ،وعن بعضهم قال: غرّني حلمك ،وعن أبي بكر الورّاق: غرّني كرم الكريم ،وإنما قال سبحانه الكريم دون سائر أسمائه وصفاته ،لأنه كأنه لقّنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم »[ 2] .
والظاهر أنّ مثل هذه الأجوبة لا تتناسب مع مقابلتها بالكفران الذي ينطلق من حالة الغرور المبنية على الاستهانة والإهمال واللامبالاة ،والجهل بمواقع وعيده وتهديده ،ولكن لا مانع من أن تكون مثل هذه الكلمات لوناً من ألوان التحبب لله والاعتذار إليه ،في ما يمكن فيه قبول العذر ،كما في المعاصي العملية التي لا تقترب من الكفر ،كما ورد في قول علي أمير المؤمنين( ع ): «كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه »[ 3] .
وكما جاء في دعاء علي بن الحسين زين العابدين( ع ) الذي رواه أبو حمزة الثمالي: «إلهي ما عصيتك إذ عصيتك وأنا بربوبيتك جاحدٌ ،ولا بأمرك مستخفٌ ،ولا لعقوبتك متعرضٌ ،ولا لوعيدك متهاونٌ ،لكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي ،وأعانتني عليها شقوتي ،وغرّني سترك المرخى عليَّ »[ 4] ،والله العالم .