{اسْتَقَامُواْ}: داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة .
القرآن يتحدث عن حيثيات البراءة
في هذه الآيات حديثٌ عن الحيثيّات التي تبرّر إلغاء المعاهدة القائمة بين المسلمين والمشركين ،فليس الموقف حالةً اعتباطيةً تنطلق من موقع الشعور بالقوّة المتعاظمة لدى المسلمين في المنطقة ،تماماً كما يفعل الفريق الأقوى ضد الفريق الأضعف ،إذا وجد في نفسه القوّة الكافية للسيطرة عليه ،بل الموقف يتمثَّل في دراسة السلوك العمليّ لهؤلاء المشركين الذين اتخذوا من المعاهدة غطاءً للحقد الكامن في داخل نفوسهم ضد المسلمين ،وللعداوة المتأصلة التي تحاول أن تعبّر عن نفسها بأيّة طريقةٍ ممكنة ،في ما تقوم به من الكيد للإسلام والمسلمين ،ما جعل من مسألة العهد واستمراره مصدر خطر على مسيرة الإسلام .وقد أوحى الله لرسوله أن يواجه الخوف من خيانة القوم ،بما يواجه به حركة الخيانة في صعيد الواقع ،لأنّ ذلك هو السبيل العملي لتوفير الحماية للمسلمين ،فقد جاء في قوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [ الأنفال:58] ،لأن انتظار الموقففي مثل هذه الأمورحتى يصل إلى مرحلة الخيانة الفعليّة ،يجعل المسلمين يفقدون زمام المبادرة ،لتكون في يد الآخرين الذين يعدّون العدة لأخذ المسلمين على حين غرّة ،بعد إعداد الخطط الكثيرة للانقضاض عليهم .ولهذا كان الموقف ،هو أخذ المبادرة عند ظهور بوادر الخيانة بظهور علاماتها الواضحة ،وهذا هو ما تعالجه هذه الآيات ،بتصوير الحالة الداخليّة لهؤلاء في شعورهم العدائي للمسلمين ،وفي سلوكهم النفاقي في علاقاتهم بهم ،وفي خطواتهم العملية للصدّ عن سبيل الله ،الأمر الذي يحقق لهم في المعاهدة فرصة للتقدم في اتّجاه أهدافهم العدوانية ،ويجعل من التعايش بينهم وبين المسلمين شيئاً لا معنى له في حركة الواقع .
شروط العهد مع المشركين
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رسوله} وللعهد شروطه العملية ،ودلالاته النفسية ،وخلفياته الفكرية ،ما يفرض الإخلاص في الالتزام ،والصدق في الكلمة ،والطهر في المشاعر ،ليوفّر للموقف سلامته وثباته ،لتستمر الحياة المشتركة على هذه الأسس التي تمنع من الخيانة ،وتدفع إلى الوفاء ،وتوحي بالأمن والطمأنينة ،وهذا ما لم يتوافر للعهد بين المسلمين وبين فريقٍ من المشركين ،في ما يوحي به الواقع النفسي والعملي لهؤلاء ،ولهذا جاءت هذه الفقرة من الآية بأسلوب التعجب والاستنكار ،لتثير الانطباع بأن القضية غير واقعيةٍ من حيث المبدأ والتفاصيل:{إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الذين لم تظهر منهم أيّة بادرةٍ سلبيّة ضد الوفاء بالعهد{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} في التزامهم بشروط المعاهدة نصّاً وروحاً{فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} في الوفاء بالتزاماتكم ،لأنَّ على المسلم أن يفي بعهده ،فلا يكون هو البادىء بالنقض ،لأن ذلك يتنافى مع الروحيّة الإيمانية التي يتصف بها في أخلاقه وأفعاله ،{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الذين يخافون الله ويراقبونه في أقوالهم وأفعالهم ،في الوقوف عند حدود الله التي يريدهم أن يقفوا عندها ولا يتعدّوها ،وفي مقدمّة ذلك الوفاء بالعهد للموفين بعهدهم ،لأن النقض في مثل هذه الحالات ،يوحي بفقدان الثقة بالمسلمين في علاقتهم بالآخرين في نطاق المعاهدات والمواثيق المعقودة بينهم وبين خصومهم من الناس .وهذا هو الذي يجعل من التقوى حركةً روحيّةً في الداخل ،تفرض على الإنسان الالتزام بكلمته وموقفه ،بعيداً عن صفة الطرف الآخر الذي يكون الالتزام لمصلحته من حيث كونه مسلماً أو غير مسلم ،لأن القضية هي قضية أخلاقيته في نفسه ،لا في انعكاسها على الآخرين أو في استحقاقهم لها من ناحيةٍ ذاتيةٍ .وهذا هو الذي يحقق للآخرين الحماية في المجتمع الإسلامي ،لأن الإسلام يريد لهم أن يتحركوا من خطّةٍ ثابتةٍ ،لا من تصرّفات متحركة خاضعة لردود الفعل الطارئة في المشاعر والأفكار ،وذلك بأن يكون الأساس هو ردّ الاعتداء ومواجهته ،بطريقة دفاعيّةٍ أو وقائيّة .