{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} أي الطريقين: طريق الخير وطريق الشرّ ،بمعنى أننا منحناه الهداية العقلية التي يتمكن من خلالها من معرفة الخير والشرّ ،ليدخل في عملية التفكير في المقارنة بينهما ،وفي اختيار أيّ واحدٍ منهما لحياته ،ليلتزمه في موقفه كخطٍ عمليٍّ للحياة ،وليتحرك من أجل الدعوة إليه ،فيتحمل مسؤوليته في الالتزام ،وفي الدعوة ،وفي حركة الصراع .
وقد ذكر صاحب الميزان ملاحظةً دقيقةً في استفادة المفهوم الجامع بين هذه الآيات الثلاث فقال: «وفي الآيات الثلاث حجّةٌ على قوله:{أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ}أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده ،ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الأعمال ،ويميز الخير من الشرّ والحسنة من السيئة .
محصلها: أن الله سبحانه هو الذي يعرّف المرئيات للإنسان بوسيلةٍ عينيّةٍ ،وكيف يتصور أن يعرّفه أمراً وهو لا يعرفه ؟وهو الذي يدل الإنسان على ما في الضمير بواسطة الكلام ،وهل يعقل أن يكشف له عمّا هو في حجابٍ عنه ؟وهو الذي يعلّم الإنسان ويميّز له الخير والشرّ بالإلهام ،وهل يمكن معه ،أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه ؟فهو تعالى يرى ما عمله الإنسان ويعلم ما ينويه بعمله ،ويميّز كونه خيراً أو شرّاً ،وحسنةً أو سيّئةً »[ 5] .
ونلاحظ على هذا الكلام ،أن إبطال قوله:{أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ} لا يحتاج إلى أيّة حجةٍ استدلاليةٍ ،لأنه يمثل بداهة الفكرة لمن يعرف أن الله هو الذي يطّلع على شؤون عباده ،سواء كان ذلك في الموقع السرّي أو العلني .
والظاهر أن هذه الآيات واردةٌ في مواجهة حالة الغرور التي يعيشها هذا الإنسان ،في طريقته في الكلام ،وفي الحركة ،وفي الموقف ،وفي تمرده على خالقه ،وثقته الكبيرة بنفسه ،بعيداً عن ارتباطه بالله ،ليعرِّفه بأنهسبحانههو الذي خلق له العينين اللتين يبصر بهما ،ولولاهما لم يعرف شيئاً ،وأنه هو الذي خلق له اللسان والشفتين التي ينطق بها ،ولولاها لم يستطع النطق ،وأنه هو الذي أعطاه العقل الذي يميز به بين الخير والشرّ ،ولولاه لم يدرك شيئاً ،فكيف يدّعي لنفسه هذا الموقع ،ويغفل مقام ربه ومضمون عبوديته له أمام ربوبيته المطلقة ؟كيف يفسر ذلك ؟