خلق الإنسان في كبد
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} وهذه هي الفكرة التي أُريد تأكيدُها ،بالإيحاء بأنه لا حاجة إلى القسم بالبلد ووالدٍ وما ولد لإثباتها ،لأنها في مستوى الوضوح البارز من خلال ملاحظة الإنسان في ولادته ،في ما يقاسيه ،والداً أو مولوداً ،من متاعب الحمل والولادة ،وفي نشأته ،في ما يقاسيه من الأوضاع المحيطة بالإرضاع والتغذية والتربية ،وفي ما يطرأ عليه من طوارىء المرض والخوف والجوع والعطش والبلاء المتنوع ،وما يحتاجه في تهيئة شروط حياته وحياة عياله من جهدٍ كبير وأعمال قاسية مجهدة تسلبه النوم والراحة والاستقرار ،وتعرّضه للمزيد من الآلام النفسية ،كالذلّ والمهانة ونحوهما ،مما قد يصدر من الأشخاص أو الجهات التي تشرف على عمله ،وفي ما يواجهه من التحديات التي تتحداه في وجوده أو ماله ،أو في أهله وكرامته ،في ساحات الصراع ،وفي مواقع الطغيان ،ما يفرض عليه أن يدخل في التجارب القتالية التي تهدد حياته ،أو في الصراعات المتنوّعة التي تهدّد استقراره ،وفي ما يعيشه من الحاجة إلى العلم والخبرة اللذين يفرضان عليه أن يتعب من أجل كسب العلم ،وتحريك التجربة واستنطاقها ،وتنمية العقل ،وتقوية الذهن ،وإيجاد الوسائل التي تجعل من حركته في العلم حالةً إنتاجيةً ،بدلاً من أن يبقى في حالةٍ استهلاكيةٍ .
وهكذا يبقى الإنسان في كبد ،عندما يريد أن ينال رضى الله ،في ما يبذل من نفسه وماله وفكره وحياته في سبيل تحقيق الأهداف الكبيرة التي يحبها الله ويريد له أن يبلغها أو يتحرك في الطريق التي يتجه إليها ،أو في ما يعمل على تأكيد فكره ليبلّغه للناس ،وليتحمل كل النتائج السلبية التي تصيب ذاته في سبيل ذلك ،وليعيش واقع الصراع الفكري ،كما يعيش واقع الصراع السياسي والعسكري ،من أجل أن يحقِّق للفكر قوّته ،وللواقع السياسي والعسكري امتداده وثباته واستمراره .
إن الكدح في سبيل الحياة ،ومعاناة الآلام الكبيرة من أجل الأهداف ،ومقاساة الأتعاب الشديدة والجهد القاسي في الطريق إلى إبقاء الحركية في خط المسؤولية ،هي الحقيقة الوجودية التي يعيشها الإنسان في كل أوضاعه وفي كل مراحله حتى يموت ،فبالجهد يولد ،وبالجهد يعيش ويموت .وهذه هي قضية خلق الإنسان على الطريقة التي يريد الله له فيها أن يعيش المسؤولية ،ليعتبر الحياة كدحاً مسؤولاً ،لا استرخاءً عبثياً ،وليعيش الإحساس بالقدرة الإلهية التي صاغت وجوده على طريقتها ،وتريد منه أن يستشعر هيمنة القدرة عليه في كل مواقع ذاته وحركته .