وجملة:{ لقد خلقنا الإنسان في كبد} جواب القسم وهو الغرض من السورة .
والإِنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقولُ جمهور المفسرين ،فالتعريف فيه تعريف الجنس ،ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله:{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}[ البلد: 5] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين ،فالعموم عموم عرفي ،أي الإنسان في عُرف الناس يومئذ ،ولم يكن المسلمون إلا نفراً قليلاً ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإِنسان مراداً به الكافرون من الناس .
ويجوز أن يراد به إنسان معيّن ،فالتعريف تعريف العهد ،فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال: أبو الأشَدّيْن واسمه أُسَيْد بن كَلْدَةَ الجُمَحِي كان معروفاً بالقوّة والشدة يجعل الأديم العُكَاظي تحت قدميه فيقول: من أزالني فله كذا .فيجذبه عشرةُ رجال حتى يمزَّق الأديم ولا تزول قدماه ،وكان شديد الكفر والعداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم فنزل فيه:{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}[ البلد: 5] وقيل: هو الوليد بن المغيرة ،وقيل: هو أبو جهل .وعن مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ،زعم أنه أنفق مالاً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلْف الخندق .
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القَسَم ولا السياق .
والخلق: إيجاد ما لم يكن موجوداً ،ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى:{ يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق}[ الزمر: 6] وقوله:{ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}[ المائدة: 110] .فهو جعل يغير ذات الشيء .
والكَبَد بفتحتين: التعب والشدة ،وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد ،ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار ،حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه ،ويَحِق وِءَامُه .
وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل{ خلقنا} على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل{ خلقنا} كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه .وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم ،فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة .واضطرابُ رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر .ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله:{ لقد خلقنا الإنسان في كبد} دليل مقصوداً وحده بل هو توطئة لقوله:{ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}[ البلد: 5] .والمقصود إثبات إعادة خلق الإِنسان بعد الموت للبعثِ والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سُور كثيرة من السور الأولى .
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله:{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين}[ التين: 4 ،5] بعد القسم بقوله:{ التين والزيتون}[ التين: 1] الخ .