و{ والد} وقع منكراً فهو تنكيرَ تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم .فتعين أن يكون المرادَ والداً عظيماً ،والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله{ وما ولد} .
والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد ب{ والد} إبراهيمَ عليه السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجَر قال تعالى:{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام}[ إبراهيم: 35] ثم قال:{ ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم}[ إبراهيم: 37] .وإبراهيم والد سُكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى:{ ملة أبيكم إبراهيم}[ الحج: 78] ،ولأنه والد محمد صلى الله عليه وسلم .
و{ ما وَلد} موصول وصلة والضمير المستتر في{ ولد} عائد إلى{ والد} .والمقصود: وما ولده إبراهيم من الأبناء والذرية .وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمداً صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا تعريض بالتنبيه للمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادُوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعِمارَةِ المسجد الحرام قال تعالى:{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا}[ آل عمران: 68] .
وجيء باسم الموصول{ مَا} في قوله:{ وما ولد} دون ( مَن ) مع أن ( مَن ) أكثرُ استعمالاً في إرادة العاقل وهو مراد هنا ،فعُدل عن ( مَن ) لأن{ ما} أشدُّ إبهاماً ،فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإِبهام لإرادة التفخيم ،ونظيره قوله تعالى:{ واللَّه أعلم بما وضعت}[ آل عمران: 36] يعني مولوداً عجيبَ الشأن .ويوضِّح هذا أن{ ما} تستعمل نَكرة تامة باتفاق ،و ( مَن ) لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي .
ولان قوة الإِبهام في{ ما} أنسب بإرادة الجماعة دون واحِدٍ معين ،ألا ترى إلى قول الحَكَم الأصم الفَزاري:
اللُّؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالدهِ *** واللؤْمُ أكرمُ من وَبْر ومَا ولَدَا
يريد ومِن أولاده لا ولداً معيّناً .