)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ( البقرة:34 )
التفسير:
قوله تعالى:{وإذ قلنا} يعني اذكر إذ قلنا ؛ومثل هذا التعبير يتكرر كثيراً في القرآن ،والعلماء يقدرون لفظ:"اذكر "،وهم بحاجة إلى هذا التقدير ؛لأن"إذ "ظرفية ؛والظرف لا بد له من شيء يتعلق به إما مذكوراً ؛وإما محذوفاً ؛وفي نظم الجُمل: .
لا بد للجار من التعلق بفعل أو معناه نحو مرتقي ومثله الظرف ؛وجاء الضمير في{قلنا} بضمير الجمع من باب التعظيم .لا التعدد .كما هو معلوم ..
قوله تعالى:{للملائكة}: سبق الكلام على ذكر الملائكة ،ومن أين اشتق هذا اللفظ ..
قوله تعالى:{اسجدوا لآدم}:"السجود "هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً ،وخشوعاً ؛وليس المراد به هنا الركوع ؛لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود ،كما في قوله تعالى:{تراهم ركعاً سجداً} [ الفتح: 29] ،وقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [ الحج: 77] ..
قوله تعالى:{فسجدوا} أي من غير تأخير ؛فالفاء هنا للترتيب ،والتعقيب ؛{إلا إبليس} هو الشيطان ؛وسمي إبليساً لأنه أَبلَسَ من رحمة الله .أي أَيِسَ منها يأساً لا رجاء بعده .{أبى} أي امتنع ؛{واستكبر} أي صار ذا كبر ؛{وكان من الكافرين}: زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن
{كان} فعل ماضٍ ؛والمضي يدل على شيء سابق ؛لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن"كان "تأتي أحياناً مسلوبة الزمان ،ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة ؛ومن ذلك قوله تعالى:{وكان الله غفوراً رحيماً} [ النساء: 96] ،وقوله تعالى:{وكان الله عزيزاً حكيماً} [ النساء: 158] ،وقوله تعالى:{وكان الله سميعاً بصيراً} [ النساء: 134] ،وما أشبهها ؛هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى ؛بل لا يزال ؛فتكون{كان} هنا مسلوبة الزمان ،ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة ؛وهذا هو الأقرب ،وليس فيه تأويل ؛ويُجرى الكلام على ظاهره ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة ؛وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له ..
. 2ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة ؛لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء ؛ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين ؛وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة ؛قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها ،فكيف عن ترك الصلاة كاملة ؟!وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو ؛وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب ،والسنة ،وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة ..
ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام ،حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله ؛ولكن الله رحمه ،ورحم ابنه برفع ذلك عنهما ،حيث قال تعالى:{فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} [ الصافات: 103 .105]؛ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب ،لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة ..
. 3ومن فوائد الآية: أن إبليس .والعياذ بالله .جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر ؛والاستكبار عن الحق ،وعلى الخلق ؛والكفر ؛إبليس استكبر عن الحق ؛لأنه لم يمتثل أمر الله ؛واستكبر على الخلق ؛لأنه قال:{أنا خير منه} [ الأعراف: 12]؛فاستكبر في نفسه ،وحقر غيره ؛و "الكبر "بطر الحق ،وغمط الناس ..
تنبيه:
إن قال قائل: في الآية إشكال .وهو أن الله تعالى لما ذكر أمر الملائكة بالسجود ،وذكر أنهم سجدوا إلا إبليس ؛كان ظاهرها أن إبليس منهم ؛والأمر ليس كذلك ؟..
والجواب: أن إبليس كان مشاركاً لهم في أعمالهم ظاهراً ،فكان توجيه الأمر شاملاً له بحسب الظاهر ؛وقد يقال: إن الاستثناء منقطع ؛والاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه ..