قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (
إذ ظرف زمان في محل نصب ،قلنا جملة فعلية تتألف من الفعل ثم الفاعل وهو الضمير نا ،وفي الآية بيان عن أمر الله للملائكة أن يسجدوا لآدم لكي يرسي في أذهانهم حقيقة هذا الكائن العظيم الذي سيكون له ولذريته شأن جليل وبالغ الأهمية ،وقيل الخوض في معنى السجود الوارد في هذه الآية فإننا نؤثر أن نؤكد على أن السجود وهو قمة الخضوع والامتثال أصلا لا يكون إلا لله وحده .وعلى ذلك فإن السجود لآدم ليس من باب العبادة ،ولكنه يقتضي تفصيلا نوضحه في الفقرات الآتية:
فقد اختلفت كلمة أهل العلم في حقيقة السجود الذي مارسته الملائكة لدى الطلب منهم بأداء ذلك ،ولعل القولين التاليين هما اللذان يعول عليهما لدى التدقيق في هذه المسألة .
أما القول الأول: فهو أن السجود لآدم كان على النحو الذي حدده الشرع والعرف وهو وضع الجباه على الأرض ،وذلك الذي يناسب ظاهر اللفظ في الآية الكريمة ،وهو أقل إغراقا في التأويل الذي قد يحمل على التكلف ،لكن ينبغي التركيز على الحقيقة الأساسية وهي أنه ليس المقصود من السجود العبادة ،فإن العبادة لا تكون لأحد سوى الله ،وعلى ذلك يمكن تفسير قوله: (اسجدوا لآدم (أن يكون السجود أمامه ليكون كالقبلة للمصلي ،فالمسلمون في صلاتهم يتوجهون صوب الكعبة ،فهم بذلك يسجدون إليها أي صوبها أو شطرها لا لها أو من أجلها وذلك كله على سبيل التكريم لآدم والتعظيم ولتعلم الملائكة أي كائن هذا الذي يقفون أمامه احتراما وإجلالا أو أنه كائن ذو شأن مقدور ومسطور في علم الله القديم ،وسيكون من ذريته من أطهار النبيين والصديقين والمتقين ما يخلب اللب خلبا .
وأما القول الثاني: فهو أن السجود ليس على هيئته المعروفة من الانحناء ووضع الجبهة على الأرض مثلما هو مبين في الشرع ،وإنما المقصود بالسجود الذي أدته الملائكة هو التذلل والانقياد ،وذلك الذي ينسجم مع المفهوم اللغوي لهذه الكلمة ،فكأن الأمر من الله للملائكة في أن يخضعوا لآدم وأن يقفوا أمامه في تطامن وإجلال إقرارا منهم له بالفضل ،هذان القولان خير ما ورد في تجلية حقيقة السجود ،وهما قولان لا جرم أن يكونا موضع تقدير الباحث المتدبر ،مع أن أقوالا أخرى للعلماء في هذا الصدد لا نجد حاجة لطرحها ومناقشتها .
قوله: (فسجدوا إلا إبليس (امتثلت الملائكة لأمر الله سراعا فخروا ساجدين غير إبليس الذي أبى أن يمتثل للأمر ،وإبليس من الإبلاس وهو الأس ،والفعل أبلس بمعنى أيس الرجل أي افتقد الأمل والرجاء ثم اسم الفاعل مبلس وهم الآيس ،وقد ورد مثل ذلك في قوله تعالى: (فإذا هم مبلسون (وقيل أن هذا الاسم لا ينصرف لأنه أعجمي .{[52]}
على أن إبليس من حيث أصله يعتبر مسألة أثارت بين العلماء خلافا يمكن أن نعرض له هنا في إجمال ،فقد ذهبت جمهرة كبيرة من العلماء إلى أن إبليس واحد من الملائكة ،وذلك ما يوحي به ظاهر الآية ،وعلى هذا يكون الاستثناء هنا متصلا لكن فريقا آخر من العلماء قد ذهبوا إلى أنه لم يكن الملائكة ،وأنه من الجن فيكون الاستثناء بذلك منقطعا ،أي أن المستثنى – وهو إبليس- ليس من جنس المستثنى منه وهم الملائكة واستدل هؤلاء على ذلك بأن الملك دائم الطاعة والتقوى لله ،وأنه لا يعصي له أمرا كلفه به ،وفي ذلك يقول سبحانه عن الملائكة(لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( وثمة نص قرآني آخر يزجي بالدلالة الواضحة الجلية على أن إبليس ما كان من الملائكة وهو قوله سبحانه: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه (وذلك تبيين لحقيقة إبليس وأنه من حيث أصله كان من الجن وهؤلاء صنف من الخليفة التي لا تشبه الملائكة أو البشر وذلك لتحليقهم أصلا من جنس النار ،(وخلق اللجان من مارج من نار (ذلك ما ورد في أصل إبليس وإن كنا نرجح القول الثاني وهو أنه من غير الملائكة والله سبحانه أعلم .
وقوله: (أبى واستكبر وكان من الكافرين (امتنع إبليس من السجود وتولى عن أمر الله مستكبرا بعد أن أغواه إحساسه بالعظمة والكبر ،وذلك داء خطير يعصف بالمخلوق ويزين له كل ضروب المعصية والفسق عن أمر الله ،الى أن يودي به أخيرا في الهاوية والسقوط في الأذلين ومع الكافرين الذين يجحدون نعمة الله ويعلنون عليه الحرب والتمرد في مجاهرة وتوقح .