)وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة:42 )
التفسير:
قوله تعالى:{ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي لا تمزجوا بينهما حتى يشتبه الحق بالباطل ؛فهم كانوا يأتون بشبهات تُشَبِّه على الناس ؛فيقولون مثلاً: محمد حق ،لكنه رسول الأميين لا جميع الناس ..
قوله تعالى:{وتكتموا الحق}: هنا الواو تحتمل أنها عاطفة ،وتحتمل أنها واو المعية ؛والمعنى على الأول: لا تلبسوا الحق بالباطل ولا تكتموا الحق ؛فتكون الجملتان منفرداً بعضهما عن بعض ؛ويحتمل أن تكون الواو للمعية ،فيكون النهي عن الجمع بينهما ؛والمعنى: ولا تلبسوا الحق بالباطل مع كتمان الحق ؛لكن على هذا التقدير يبقى إشكال: وهو أن قوله تعالى:{لا تلبسوا الحق بالباطل} يقتضي أنهم يذكرون الحق ،والباطل ؛فيقال: نعم ،هم وإن ذكروا الحق والباطل فقد كتموا الحق في الحقيقة ؛لأنهم لبسوه بالباطل ،فيبقى خفياً ..
قوله تعالى:{وأنتم تعلمون}: الجملة في موضع نصب على الحال .أي والحال أنكم تعلمون صنيعكم ...
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: وجوب بيان الحق ،وتمييزه عن الباطل ؛فيقال: هذا حق ،وهذا باطل ؛لقوله تعالى:
{ولا تلبسوا الحق بالباطل}؛ومن لبْس الحق بالباطل: أولئك القوم الذين يوردون الشبهات إما على القرآن ،أو على أحكام القرآن ،ثم يزيلون الإشكال .مع أن إيراد الشبه إذا لم تكن قريبة لا ينبغي .ولو أزيلت هذه الشبهة ؛فإن الشيطان إذا أوقع الشبهة في القلب فقد تستقر فيه .وإن ذكِر ما يزيلها ...
. 2 ومن فوائد الآية: أنه ليس هناك إلا حق ،وباطل ؛وإذا تأملت القرآن والسنة وجدت الأمر كذلك ؛قال تعالى:{ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} [ الحج: 62] ،وقال تعالى:{وإنا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين} [ سبأ: 24] ،وقال تعالى:{فماذا بعد الحق إلا الضلال} [ يونس: 32] ،وقال تعالى:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [ الكهف: 29] ،وقال النبي صلى الله عليه وسلم"القرآن حجة لك أو عليك "{[78]} ..
فإن قال قائل: أليس هناك مرتبة بين الواجب ،والمحرم ؛وبين المكروه ،والمندوب .وهو المباح .؟قلنا: بلى ،لا شك في هذا ؛لكن المباح نفسه لا بد أن يكون وسيلة إلى شيء ؛فإن لم يكن وسيلة إلى شيء صار من قسم الباطل كما جاء في الحديث:"كل لهو يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا لعبه في رمحه ،ومع أهله ،وفي فرسه "{[79]}؛وهذه الأشياء الثلاثة إنما استثنيت ؛لأنها مصلحة .كلها تعود إلى مصلحة ...
. 3ومن فوائد الآية: تحريم كتمان الحق ؛لقوله تعالى:{وتكتموا}؛ولكن هل يقال: إن الكتمان لا يكون إلا بعد طلب ؟
الجواب: نعم ،لكن الطلب نوعان: طلب بلسان المقال ؛وطلب بلسان الحال ؛فإذا جاءك شخص يقول: ما تقول في كذا ،وكذا: فهذا طلب بلسان المقال ؛وإذا رأيت الناس قد انغمسوا في محرم: فبيانه مطلوب بلسان الحال ؛وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يبين المنكر ،ولا ينتظر حتى يُسأل ؛وإذا سئل ولم يُجب لكونه لا يعلم فلا إثم عليه ؛بل هذا هو الواجب ؛لقوله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} [ الإسراء: 23] .هذه واحدة ..
ثانياً: إذا رأى من المصلحة ألا يبين فلا بأس أن يكتم كما جاء في حديث علي بن أبي طالب:"حدثوا الناس بما يعرفون ؛أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟!"{[80]}؛وقال ابن مسعود:"إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة "{[81]}؛فإذا رأيت من المصلحة ألا تبين فلا تبين ولا لوم عليك ..
ثالثاً: إذا كان قصد السائل الامتحان ،أو قصده تتبع الرخص ،أو ضرب أقوال العلماء بعضها ببعض .وأنت تعلم هذا .: فلك أن تمتنع ؛الامتحان أن يأتي إليك ،وتعرف أن الرجل يعرف المسألة ،لكن سألك لأجل أن يمتحنك: هل أنت تعرفها ،أو لا ؛أو يريد أن يأخذ منك كلاماً ليشي به إلى أحد ،وينقله إلى أحد: فلك أن تمتنع ؛كذلك إذا علمت أن الرجل يتتبع الرخص ،فيأتي يسألك يقول: سألت فلاناً ،وقال: هذا حرام .وأنت تعرف أن المسؤول رجل عالم ليس جاهلاً: فحينئذٍ لك أن تمتنع عن إفتائه ؛أما إذا كان المسؤول رجلاً تعرف أنه ليس عنده علم .إما من عامة الناس ،أو من طلبة العلم الذين لم يبلغوا أن يكونوا من أهل الفتوى: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه ؛لأنه لا حرمة لفتوى من أفتاه ؛أما لو قال لك: أنا سألت فلاناً ،ولكني كنت أطلبك ،ولم أجدك ،وللضرورة سألت فلاناً ؛لكن لما جاء الله بك الآن أفتني: فحينئذ يجب عليك أن تفتيه ؛لأن حال هذا الرجل كأنه يقول: أنا لا أطمئن إلا لفتواك ؛وخلاصة القول أنه لا يجب عليك الإفتاء إلا إذا كان المستفتي مسترشداً ؛لأن كتمان الحق لا يتحقق إلا بعد الطلب بلسان الحال ،أو بلسان المقال ..