بنو إسرائيل بين الخديعة وكتمان الحقّ:
] وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[.
كان اليهود يتبعون في مواجهة الإسلام أسلوبين:
الأول: أسلوب الخداع والتمويه ،وذلك بتلبيس الحقّ بالباطل ،وإثارة الشبهات والالتباسات في قضايا الإيمان والتشريع ،حتى يجعلوا الحقّ خفياً على النّاس ،بحيث يقف الإنسان بين الحقّ والباطل ،فلا يقدر على التمييز بينهما ...وهذا ما يحاول الكثيرون إثارته وممارسته في حياتنا الآن ،في ما يحرّكونه من أساليب التشكيك في فكر الإسلام وطبيعته ،وفي انتصار الإسلام وإمكانيات وصوله إلى الهدف الكبير في الحياة ؛وقد مارسه اليهود في الماضي ولا يزالون يمارسونه في الحاضر بأساليبهم المتنوّعة .
الثاني: أسلوب كتمان الحقيقة وإخفائها ،فقد كانوا يملكون الكثير من المعلومات والأدلة التي تؤكد صدق الرسول في رسالته ،ولكنَّهم كانوا يخفونها عن النّاس لأنهم لا يريدون للإسلام أن يأخذ مكانه الطبيعي كقوّة رسالية إلهية في الحياة ،حسداً وبغياً من عند أنفسهم .وهذا الأسلوب هو ما نواجهه تماماً في صراعنا مع الكفر والإلحاد ،عندما ينكرون كثيراً من دلائل الحقّ التي يعلمونها ،لئلا يكون منه حجّة عليهم في ما يقبلونه وفي ما يرفضونه منه .
ولا بُدَّ لنا من الإشارة إلى نقطتين لتوضيح معنى الآية:
النقطة الأولى: إنَّ الفرق بين حالة كتمان الحقّ وحالة تلبيسه بالباطل ،هو أنَّ هناك قضايا لا يستطيعون اللعب عليها ،لعدم قابليتها لذلك في مدلولها الفكري والعملي ،فكانوا يلجأون إلى كتمانها عن النّاس لئلا يعرفوا وجه الحقّ فيرتبطوا به ،وهناك قضايا لا تخلو من الغموض والخفاء في تفاصيلها الدقيقة ،فكانوا يلجأون إلى خلطها بالباطل من عند أنفسهم ،ليلبسوا على النّاس دينهم ،ويلعبوا من خلال ذلك في ما يريدون من شؤون اللعب بالحقّ والباطل .
النقطة الثانية: إنَّنا نلاحظ في القرآن أنه يتوجه إلى أهل الكتاب لا إلى الأمّة في قضية كتمان الحقّ أو تلبيسه بالباطل ،مع أنَّ من المفروضفي ما يبدوأن يطلب من الأمّة أن تتعرّف وجه الحقّ وخلوصه من الباطل من خلال قراءة التوراة والتدبّر فيها ،ولكن الظاهر أنَّ النّاس كانوا لا يملكون سبيلاً إلى الاطلاع على التوراة ليطّلعوا على ما فيها ،لأنهم كانوا يحتكرونها ويخفونها عن النّاس ،ولا يظهرون لهم إلاَّ ما يريدون إظهاره ،كما أنها لم تكن معرَّبة حتى يعرف النّاس لغتها لو قدروا على الحصول عليها ،فكانت طريقة المعرفة الوحيدة هي طريقة الأخذ من علماء أهل الكتاب ،ولهذا رأينا القرآن الكريم يتجه إليهم ليتحداهم أن يظهروها للنّاس ليكشف لهم ما فيها من حقائق ،وهذا ما تظهره الآية الكريمة:] التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ[ [ آل عمران:93] .