)وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) ( البقرة:41 )
التفسير:
قوله تعالى:{وآمنوا} معطوف على قوله تعالى: ( اذكروا )
.{بما أنزلت}: هو القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم{مصدقاً لما معكم} أي مصدقاً لما ذُكر في التوراة ،والإنجيل من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم ومن أوصاف القرآن الذي يأتي صلى الله عليه وسلم به ؛وكذلك أيضاً هو مصدق لما معهم: شاهد للتوراة ،والإنجيل بالصدق ؛فصار تصديق القرآن لما معهم من وجهين ؛الوجه الأول: أنه وقع مطابقاً لما أخبرت التوراة ،والإنجيل به ؛والوجه الثاني: أنه قد شهد لهما بالصدق ؛فالقرآن يدل دلالة واضحة على أن الله أنزل التوراة ،وأنزل الإنجيل .وهذه شهادة لهما بأنهما صدق .؛وكذلك التوراة ،والإنجيل قد ذُكر فيهما من أوصاف القرآن ،ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم حتى صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛فإذا وقع الأمر كما ذُكر فيهما صار ذلك تصديقاً لهما ؛ولهذا لو حدثتك بحديث ،فقلت أنت:"صدقتَ "،ثم وقع ما حدثتك به مشهوداً تشاهده بعينك ؛صار الوقوع هذا تصديقاً أيضاً ..
قوله تعالى:{ولا تكونوا أول كافر به} يعني لا يليق بكم وأنتم تعلمون أنه حق أن تكونوا أول كافر به ؛ولا يعني ذلك كونوا ثاني كافر ؛والضمير في قوله تعالى:{تكونوا} ضمير جمع ،و{كافر} مفرد ،فكيف يصح أن تخبر بالمفرد عن الجماعة ؟
والجواب: قال المفسرون: إن تقدير الكلام: أول فريق كافر به ؛لأن الخطاب لبني إسرائيل عموماً .وهم جماعة ...
قوله تعالى:{ولا تشتروا} أي لا تأخذوا ؛{بآياتي ثمناً قليلاً} أي الجاه ،والرئاسة ،وما أشبه ذلك ؛لأن بني إسرائيل إنما كفروا يريدون الدنيا ؛ولو أنهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لكانوا في القمة ،ولأوتوا أجرهم مرتين ؛لكن حسداً ،وابتغاء بقاء الجاه ،والشرف ،وأنهم هم أهل كتاب حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم (،فلم يؤمنوا به ..
قوله تعالى:{وإياي فاتقون} أي لا تتقوا إلا إياي ؛و"التقوى "اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره ،واجتناب نواهيه ؛ففي الآية الأولى:{وإياي فارهبون} أمر بالتزام الشريعة ،وألا يخالفوها عصياناً ؛وفي هذه الآية:{وإياي فاتقون} أمر بالتزام الشريعة ،وألا يخالفوها لا في الأمر ،ولا في النهي ..
الفوائد:
. 1من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يؤمنوا بالقرآن الذي جاء به محمدصلى الله عليه وسلم ؛لقوله تعالى: ( وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم )
. 2ومنها: أن الكافر مخاطب بالإسلام ؛وهذا مجمع عليه ،لكن هل يخاطب بفروع الإسلام ؟
الجواب: فيه تفصيل ؛إن أردت بالمخاطبة أنه مأمور أن يفعلها فلا ؛لأنه لا بد أن يُسلم أولاً ،ثم يفعلها ثانياً ؛ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل:"فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ،وأن محمداً رسول الله ؛فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة "{[76]} ..
إذاً هم لا يخاطبون بالفعل .يعني لا يقال: افعلوا .؛فلا نقول للكافر: تعال صلِّ ؛بل نأمره أولاً بالإسلام ؛وإن أردت بالمخاطبة أنهم يعاقبون عليها إذا ماتوا على الكفر فهذا صحيح ؛ولهذا يقال للمجرمين:{ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [ المدثر: 72 .47] يعني هذا دأبهم حتى ماتوا ؛ووجه الدلالة من الآية أنه لولا أنهم كانوا مخاطبين بالفروع لكان قولهم:{لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} [ المدثر: 43 .44] عبثاً لا فائدة منه ،ولا تأثير له ..
. 3 ومن فوائد الآية: أن من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ففيه شبه من اليهود ؛فالذين يقرؤون العلم الشرعي من أجل الدنيا يكون فيهم شبه باليهود ؛لأن اليهود هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ؛وفي الحديث عن النبيصلى الله عليه وسلم:"من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة "{[77]} يعنى ريحها ؛وحينئذ يشكل على كثير من الطلبة من يدخل الجامعات لنيل الشهادة: هل يكون ممن اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ؟
والجواب: أن ذلك حسب النية ؛إذا كان الإنسان لا يريد الشهادة إلا أن يتوظف ويعيش ،فهذا اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ؛وأما إذا كان يريد أن يصل إلى المرتبة التي ينالها بالشهادة من أجل أن يتبوأ مكاناً ينفع به المسلمين فهذا لم يشتر بآيات الله ثمناً قليلاً ؛لأن المفاهيم الآن تغيرت ،وصار الإنسان يوزن بما معه من بطاقة الشهادة ..
. 4ومن فوائد الآية: أن جميع ما في الدنيا قليل ،ويشهد لهذا قوله تعالى:{قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلًا} [ النساء: 77] ..
. 5ومنها: أن شرائع الله من آياته لما تضمنته من العدل ،والإصلاح .بخلاف ما يسنُّه البشر من الأنظمة والقوانين فإنه ناقص: .
أولاً: لنقص علم البشر ،وعدم إحاطتهم بما يُصلح الخلق ..
ثانياً: لخفاء المصالح عليهم: فقد يظن ما ليس بمصلحة مصلحة ؛وبالعكس ..
ثالثاً: أننا لو قدرنا أن هذا الرجل الذي سن النظام ،أو القانون من أذكى الناس ،وأعلم الناس بأحوال الناس فإن علمه هذا محدود في زمانه ،وفي مكانه ؛أما في زمانه فظاهر ؛لأن الأمور تتغير: قد يكون المصلحة للبشر في هذا الزمن كذا ،وكذا ؛وفي زمن آخر خلافه ؛وفي المكان أيضاً قد يكون هذا التشريع الذي سنه البشر مناسباً لأحوال هؤلاء الأمة في مكانهم ؛ولكن في أمة أخرى لا يصلح ؛ولهذا ضل كثير من المسلمين مع الأسف الشديد في أخذ القوانين الغربية ،أو الشرقية ،وتطبيقها على مجتمع إسلامي ؛لأن الواجب تحكيم الكتاب ،والسنة ؛والعجب أن بعض الناس .نسأل الله العافية .تجدهم قد مشوا على قوانين شرعت من عشرات السنين ،أو مئاتها ،وأهلها الذين شرعوها قد عدلوا عنها ،فصار هؤلاء كالذين يمشمشون العظام بعد أن ترمى في الزبالة ؛وهذا شيء واضح: هناك قوانين شرعت لقوم كفار ،ثم تغيرت الحال ،فغيروها ،ثم جاء بعض المسلمين إلى هذه القوانين القشور الملفوظة ،وصاروا يتمشمشونها ..
. 6 .ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عزّ وجلّ ،وإفراده بالتقوى ؛لقوله تعالى:{وإياي فاتقون} ..
فإن قال قائل: أليس الله يأمرنا أن نتقي أشياء أخرى ،كقوله تعالى:{واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [ البقرة: 281] ،وقوله تعالى:{واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [ آل عمران: 131] ،وقوله تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [ الأنفال: 25] ؟
فالجواب: بلى ،ولكن اتقاء هذه الأمور من تقوى الله عزّ وجلّ .فلا منافاة ...