/م40
ثم انتقل من الأمر بالوفاء بعموم العهد إلى العهد الخاص المقصود من السياق فقال تعالى جل شأنه{ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون} من تعليم التوراة وكتب الأنبياء كالتوحيد والنهي عن الفواحش والمنكرات والأمر بالمعروف وما يتصل بهذا من الإرشاد الموصل إلى السعادة ، فإذا نظرتم في القرآن ووجدتموه مصدقا لما معكم من مقاصد الدين الإلهي وأصوله ووعود الأنبياء وعهودهم ، تعلمون أن الروح الذي نزل به هو عين الروح الذي نزل بما سبقه ، وتعلمون أنه لا غرض لهذا النبي الذي يدعوكم إلى مثل ما دعاكم إليه موسى والأنبياء إلا تقرير الحق ، وهداية الخلق ، بعد ما طرأ من ضلالة التأويل ، وجهالة التقليد ، فبادروا إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي قامت به الحجة عليكم من وجهين ( أحدهما ) إعجازه ( وثانيهما ) كونه مصدقا لما معكم{ ولا تكونوا أول كافر به} أي ولا تبادروا إلى الكفر به والجحود له مع جدارتكم بالسبق إليه ، وهذا الاستعمال معروف في الكلام البليغ لهذا المعنى لا يقصد بالأولية فيه حقيقتها .والخطاب عام لليهود في كل عصر وزمان ثم قال{ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} الآيات هي الدلائل التي أيد بها النبي صلى الله عليه وسلم وأعظمها القرآن فهو كقوله تعالى{ اشتروا الضلالة بالهدى} أي لا تعرضوا عن الإيمان بهذا النبي وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل وهو ما يستفيده رؤساؤكم من المرؤوسين من مال وجاه أوقعاهم في الكبر والغرور ، وما يتوقعه المرؤوسون من الزلفى والحظوة بتقليد الرؤساء واتباعهم وما يخشونه إذا خالفوهم من المهانة والذلة ، وإنما سمى هذا الجزاء قليلا لأن كل ما عدا الحق قليل وحقير بالنسبة إليه ، وكيف لا يكون قليلا وصاحبه يخسر عقله وروحه قبل كل شيء لإعراضه عن الآيات البينات ، والبراهين الواضحات ، ثم إنه يخسر عن الحق وما يكون له من الشأن العظيم وحسن العاقبة ، ثم إنه يخسر مرضاة الله تعالى وتحل به نقمه في الدنيا وعقوبته في الآخر ، وختم هذه الآية بشبه ما ختم به ما قبلها وذلك قوله{ وإياي فاتقون} وليس في هذه مع سابقتها تكرار ولا شبه تكرار كما يتوهم ، فقد حال كل من القولين محله ، ولا مندوحة عن واحد منهما لأن استبدال الباطل بالحق إنما كان منهم لاتقاء الرئيس فوت المنفعة من المرءوس ، واتقاء المرءوس غضب الرئيس ، فدحض هذه الشبهة بالأمر بتقوى الله وحده الذي بيده قلوب العباد وجوارحهم ، وهو المسخر لهم في أعمالهم ، وبيده الخير كله ، وهو على كل شيء قدير .