وقد أوجب الله عليهم الوفاء بالعهد فقال تعالى:{ وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون} .
أخذ الله تعالى عهدا بأن يؤمنوا برسله ، إذا أرسلهم الله تعالى إليهم مؤيدين بالمعجزة ، ولا يكفروا بالرسل بعد أن يتبين الهدى ؛ ولذا أمرهم بأن يؤمنوا بالكتاب الذي أنزله الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر الرسول ابتداء بل ذكر ما أنزل على ذلك الرسول ، وإن الإيمان به يضمن الإيمان بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن ذات المنزل هو الحجة الدامغة ، وهو فيما يدل عليه من علم حجة عليهم ، لأنه مصدق لما عندهم فهو يحمل في نفسه دليل صدقه ، وذكره أخذ للحجة عليهم ابتداء وإذا آمنوا بالكتاب فقد آمنوا لا محالة برسالة من نزل عليه الكتاب الحكيم ؛ ولأن ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا ريب فيه ؛ فهو يدعو إلى تصديقه ، وقوله تعالى:{ مصدقا لما معكم} بما يدل على أنهم إذا آمنوا بهذا الكتاب المنزل من عند الله يؤمنون بما عندهم ، وأنهم إن كفروا به يكفرون بما عندهم .
وهذا يدل على أن الذي نزل على موسى ، وبقي عنده من تعاليمه يصدق ما في هذا الكتاب ، إذ التعاليم واحدة في أصلها وفي لبها ؛ ولذا قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم:( لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي ){[73]} .
وإن التوراة التي نزلت على موسى فيها التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم:{ يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . . . ( 157 )} [ الأعراف] وإن قوله تعالى:{ مصدقا لما بين يديه من الكتاب . . . ( 48 )} [ المائدة] وقوله في هذا النص الكريم:{ مصدقا لما معكم} لا يدل على أن التوراة الحقيقية الحاضرة صادقة لم يعترها تحريف ولا تبديل ، فإن القرآن قد نص على التحريف ، إذ يقول سبحانه وتعالى:{ يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به . . . ( 13 )} [ المائدة] وقال تعالى:{ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله . . . ( 78 )} [ آل عمران] وإذا كانوا يريدون أن يستدل من القرآن على صدق ما عندهم ، فليأخذوا به كله ، لا أن يتعلقوا بحرف مما جاء فيه ويستدلوا به .
وإن معنى{ مصدقا لما معكم} ، أي ما بقي معكم من غير تحريف ولا تبديل وهو الرسالة الموسوية في أصلها ومعناها من عبادة الله وحده ، ومن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن تبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون . كما قال تعالى:{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . . . ( 146 )} .
وبعد أن طالبهم الله تعالى بأن يؤمنوا بما أنزل من كتاب بين لهم أنهم جديرون بأن يسارعوا إلى الإيمان لمعرفتهم ما جاء فيه من حق ، وأن يكونوا أسوة للمشركين الذين لم يؤتوا علم الكتاب ، ولم تكن لهم البينات التي عندهم ، فقال سبحانه:{ ولا تكونوا أول كافر به} ، أي:لا تكونوا أول من يكفر به .
وأول "أفعل"في وزنه ، والبصريون يقولون إنه لا فعل له ، والكوفيون يقولون إن له فعلا ، هو من وأل إذا نجا ، ف"وأل"فعل بمعنى نجا وخرج ومنه اشتق أول .
وهنا مسألتان نتكلم فيهما قد تبينان ناحية من نواحي الآية الكريمة:
الأولى – أن الله تعالى يقول:{ ولا تكونوا أول كافر به} والخطاب لجماعة لا لواحد ، فالظاهر من سياق القول أن يقال أول الكافرين به ، ولكن الله تعالى اختار التعبير بالمفرد ، على تقدير الفارق ، والمعنى لا تكونوا أول فريق يكفر به ، أي لا تكونوا أول من يجتمع على الكفر به ، باعتبارهم موحدين في الفكرة والغاية ، وأنهم يتضافرون فيما يفعلون ، وإن المراد تقبيح أن يقع منهم فعل الكافر ، أو أن يقع فيهم الكفر ، لأنهم أهل علم بالنبوة ، وفي ذلك إغراء لهم بالاتباع وحث لهم على الإيمان لأنهم أولى به وأجدر .
الثانية – أنهم إن كفروا فلن يكونوا أول الكافرين لأن قوما من قريش قد كفروا به من قبل في مكة ، وهذه الآية في سورة مدنية فكيف ينهون على أن يكونوا أول كافر به ، ونقول:إننا فسرنا أول كافر بأول فريق يكذب به ، وإن قريشا لم يكفروا على أنهم فريق بل كفروا به آحادا ، ثم كان منهم من يؤمن ، وقيل إن المراد أول كافر به من أهل الكتاب .
ومهما يكن من تخريج ، فالآية الكريمة تحث على المسارعة في الإيمان ، وأن يكونوا أول الجماعة المؤمنة .
قوله تعالى:{ ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} أي لا تستبدلوا بآياتي القائمة المبينة للحق ، وتتركوها في نظير أي أمر من الأمور فهو مهما يكن ثمن قليل بالنسبة للآيات البينات الدالة على الحق ؛ لأن الحق أغلى ما في الوجود ، فإذا ترك فإن ثمن تركه لا يمكن أن يكون في منزلته ، والتنكير في قوله تعالى:{ ثمنا قليلا} للدلالة على أن أي ثمن – مهما يكن – قليل بالنسبة لذات الحق ، وأنهم كانوا يتركون الحق لمآرب دنيوية ، وهو السلطان والغلب والمفاخرة ، وغير ذلك مما تدفع إليه أهواء أهل الدنيا .
وبعد ذلك التحريض والحث على الاتباع وبيان أنهم إن اشتروا بالحق شيئا فهو ثمن قليل ، بعد ذلك حذرهم من ترك الحق ، وخوفهم من عاقبة هذا الترك ، فقال:{ وإياي فاتقون} تحذير من المخالفة بالتقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى والمعنى:وإياي فاحذروا{ فاتقون} النون هنا نون الوقاية التي تكون بين الفعل وياء المتكلم ، والفاء جواب عن شرط مقدر أفصحت عنه ، والمعنى إن كان هناك من يتقي عذابه ومن يجب أن تكون وقاية بينكم وبينه ، فاتقوني أنا وحدي ، أجعل بينكم وبين عذابي وقاية تقيكم من عذاب النار .
أمرهم سبحانه وتعالى أن يؤمنوا بالحق وهو الكتاب الذي أنزل مصدقا لما معهم ، وهو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وإن الأمر بالإيمان بالقرآن أمر بالإيمان بمن نزل عليه القرآن .