ثم أثنى الله تعالى على الذين يغضون أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
{إن الذين يغضون أصوتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} لما نهى عن رفع الصوت فوق صوته ،وعن الجهر له بالقول كجهر بعضنا لبعض ،أثنى على الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ،أي يخفضونها ويتكلمون بأدب ،فلا إزعاج ولا صخب ،ولا رفع صوت ،لكن يتكلمون بأدب وغض ،قال الله تعالى:{أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} أعاد الإشارة{أولئك} تعظيماً لشأنهم ورفعة لمنزلتهم ،لأن{أولئك} من أسماء الإشارة الدالة على البعد ،وذلك لعلو منزلتهم ،فأتى باسم الإشارة بياناً لرفعة منزلتهم وعلوها .
{امتحن الله قلوبهم} .قال العلماء: معناها أخلصها للتقوى ،فكانت قلوبهم مملوءة بتقوى الله - عز وجل - ولهذا تأدَّبوا بآداب الله تعالى التي وجه لها فغضوا أصواتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ،فأخبر عن ثوابهم:{لهم مغفرة وأجر عظيم} ،مغفرة من الله لذنوبهم ،وأجر عظيم على أعمالهم الصالحة ،وفي هذه الآية إشارة إلى أن الصلاح صلاح القلب ،لقوله:{امتحن الله قلوبهم للتقوى} .وكما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: «التقوى هاهنا » وأشار إلى صدره الذي هو محل القلب ثلاث مرات: «التقوى هاهنا ،التقوى هاهنا ،التقوى هاهنا »ولا شك أن التقوى تقوى القلب ،أما تقوى الجوارح وهي إصلاح ظاهر العمل ،فهذا يقع حتى من المنافقين:{وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} لكن الكلام على تقوى القلب التي هي بها الصلاح ،نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك .وبعض الناس يفعل المعاصي كإسبال الثوب مثلاً ،أو حلق اللحية ،أو شرب الدخان ،وتنهاه وتخوِّفه من عقاب الله ،فيقول: التقوى هاهنا ،كأنه يزكي نفسه ،وهو قائم بمعصية الله ،فنقول له بكل سهولة: لو كان ما هنا متقياً لكانت الجوارح متقية ؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ».