أما الأدب الثاني ففي قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} ،الآية الأولى فيها النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله في أي شيء ،سواء من الأقوال أو الأفعال أو غيرها ،أما هذه الآية فهي في رفع الصوت وإن لم يكن هناك تقدم في الأحكام من تحليل أو تحريم أو إيجاب ،يقول الله - عز وجل -:{لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي} فإذا خاطبك النبي صلى الله عليه وسلم بصوت فاخفض صوتك عن صوته ،وإذا رفع صوته فارفع صوتك لكن لابد أن يكون دون صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولهذا قال:{لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي} .
{ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} يعني لا تنادونه بصوت مرتفع ،كما ينادي بعضكم بعضاً ،بل يكون جهراً بأدب وتشريف وتعظيم ،يليق به صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،وهذا كقوله:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} .يعني إذا دعاكم لشيء فلا تجعلوا دعاءه كدعاء بعضكم لبعض ،إن شئتم أجبتم وإن شئتم فلا تجيبوا ،بل يجب عليكم الإجابة ،كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وهنا قال:{ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بعضكم لبعض} كذلك أيضاً لا تنادونه بما تتنادون به ،فلا تقولون: يا محمد ،ولكن قولوا: يا رسول الله ،يا نبي الله ،وما أشبه ذلك .{أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} يعني كراهة أن تحبط أعمالكم ،والمعنى إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته ،وعن الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض كراهة أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ،ففي هذا دليل على أن الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم ،أو يجهر له بالقول كجهره لبعض الناس ،قد يحبط عمله من حيث لا يشعر ؛لأن هذا قد يجعل في قلب المرء استهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،والاستهانة بالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ردَّة عن الإسلام توجب حبوط العمل ،ولما نزلت هذه الآية كان ثابت بن قيس بن شماس - رضي الله عنه - جهوري الصوت ،وكان من خطباء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،فلما نزلت هذه الآية تغيَّب في بيته وصار لا يحضر مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ،فافتقده الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل عنه فأخبروه أنه في بيته منذ نزلت الآية ،فأرسل إليه رسولاً يسأله ،فقال: إن الله تعالى يقول:{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} .
وإنه قد حبط عمله ،وإنه من أهل النار ،فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فحضر ،وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة ،وقال: «أما ترضى أن تعيش حميداً ،وتُقتل شهيداً ،وتدخل الجنة ؟»قال: بلى رضيت ،فقُتل - رضي الله عنه - شهيداً في وقعة اليمامة ،وعاش حميداً ،وسيدخل الجنة بشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولذلك كان ثابت - رضي الله عنه - ممن يُشهد له بأنه من أهل الجنة بعينه ؛لأن كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة ،وكل إنسان يشهد له بأنه في النار فهو في النار ،وأما من لم يشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم فنشهد له بالعموم ،فنقول: كل مؤمن في الجنة ،وكل كافر في النار ،ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار ،أو من أهل الجنة إلا من شهد له الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .ففي هذه الآية الكريمة بيان تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ،وأنه لا يجوز للإنسان أن يجهر له بالقول كجهره لسائر الناس ،وأنه لا يجوز له أن يرفع صوته على صوت الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولما نزلت هذه الآية تأدَّب الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك حتى كان بعضهم يكلمه مسارَّة ولا يفهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقول من إسراره ،حتى يستثبته مرة أخرى ،وفي هذه الآية دليل على أن كل من استهان بأمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - فإن عمله حابط ؛لأن الاستهانة بالرسول - عليه الصلاة والسلام - ردَّة ،والاستهزاء به ردَّة كما قال الله تعالى في المنافقين الذين كانوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم:{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} وكانوا يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء - يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه - أرغب بطوناً - يعني أوسع - ولا أجبن عند اللقاء ،ولا أكذب ألسناً ،فأنزل الله هذه الآية ،ولما سألهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب ،يعني نتكلم بكلام لا نريده ،ولكن لنقطع به عنا عناء الطريق ،فأنزل الله هذه الآية .{قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .ولهذا كان الصحيح أن من سب الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان كافراً مرتدًّا ،فإن تاب قبلنا توبته لكننا لا نرفع عنه القتل ،بل نقتله أخذاً بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وإذا قتلناه بعد توبته النصوح الصادقة صلينا عليه كسائر المسلمين الذين يتوبون من الكفر أو من المعاصي .