/م1
المفردات:
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي: إذا كلمتموه ونطق ونطقتم ،فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته .
التفسير:
2-{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} .
أدب الله المسلمين وأدب العرب والأعراب ،وأدب الدنيا كلها في لزوم الأدب وخفض الصوت ،عند مخاطبة الكبراء والعلماء ،والأنبياء والمرسلين ،وإذا تكلم إنسان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ،أو عند قبره في مماته ،أو عند قراءة الحديث الشريف ،أو القرآن الكريم ،فيجب ألا يرفع صوته فوق صوت النبي ،بل يكون صوت النبي أعلى صوتا ،وأوقع أثرا من صوت المتكلم بحضرته ،وجهر النبي أعلى من جهر المتحدث أو المستفهم بحضرته ،حتى تكون مزية النبي واضحة ،وسابقته ظاهرة ،وامتيازه بينا .
وإذا خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وجب أن نقول له: يا رسول الله ،أو يا نبي الله ،ولا نخاطبه باسمه مجردا ،مثل يا محمد أو يا أحمد ،أي ينبغي أن يشتمل الخطاب على التعظيم والتوقير والاحترام .
أمر الله بذلك خشية إزعاج النبي وإيلامه ،برفع أصواتنا عليه ،أو عدم اللياقة أو الجلافة في خطابه ،وعندئذ يحبط عمل المتكلم ،ويضيع ثوابه ،ويخسر حسناته ،من حيث لا يعلم ذلك في الدنيا ،بل يعلمه يوم القيامة .
وإذا وصل الجهر بالصوت إلى حد الاستخفاف والاستهانة فذلك كفر ،والعياذ بالله ،فالغرض من الآية أن يكون صوت المؤمن عند خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،خفيضا مناسبا لمقامه وهيبته ،لكن بحيث يسمعه .
ونلحظ أن الله نهانا عن جهر معين فقال:{كجهر بعضكم لبعض ...} أي: ولا تجهروا له بالقول جهرا مثل جهر بعضكم لبعض .
قال القرطبي:
وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ،حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ،وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفته ،أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه فيما بينهم ،وهو الخلو من مراعاة أبّهة النبوة ،وجلالة مقدارها ،وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها .اه .
وقد لاحظنا أن القرآن الكريم حث على توقير الرسول وتعظيمه ،قال تعالى:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ...} ( النور: 63 ) .
وقد دلت آيات من كتاب الله تعالى على أن الله العلي القدير ،لم يخاطب النبي في القرآن باسمه ،وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم كقوله سبحانه:
{يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} .( الأحزاب: 45 ) .
{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ...} ( المائدة: 67 ) .
{يا أيها المدثر} .( المدثر: 1 ) .
مع أنه سبحانه نادى غيره من الأنبياء بأسمائهم ،مثل:{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ...} ( البقرة: 35 ) .
ومثل:{يا نوح اهبط بسلام منا ...} ( هود: 48 ) .
ومثل:{وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا ...} ( الصافات: 104 ،105 ) .
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر اسمه مجردا في القرآن في خطاب ،وقد سبق أن ذكرنا أن اسم محمد صلى الله عليه وسلم تكرر أربع مرات في القرآن الكريم هي:
1-{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ...} ( آل عمران: 144 ) .
2-{ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ...} ( الأحزاب: 40 ) .
3-{والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} .( محمد: 2 ) .
4-{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...} ( الفتح: 29 ) .
وكلها ليست خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم ،بل هي حديث عنه صلى الله عليه وسلم .
ملاحظات
( أ ) قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا ،وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ،فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ،ولا يعرض عنه ،كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به ،وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:
{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ...} ( الأعراف: 204 ) .
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي ،وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة ،بيانها في كتب الفقه4 .
( ب ) النهي المذكور عن رفع الصوت ،هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ،ويوقر الكبراء ،أما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند ،أو إرهاب عدو ،ونحو ذلك فليس منهيا عنه ،لأنه لمصلحة ،ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين: ( اصرخ بالناس ) ،وكان العباس أجهر الناس صوتا ،يروى أن غارة أتتهم يوما ،فصاح العباس: يا صباحاه !فأسقطت الحوامل لشدة صوته .
( ج ) لقد تأدب المسلمون بهذا الأدب الرفيع ،فقال أبو بكر الصديق: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا إسرارا أو كأخي السرار .وسلك عمر مثله في خفض صوته ،فكان إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه .
وفعل مثل ذلك ثابت بن قيس ،لما نزل قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ...} فقد دخل بيته ،وأغلق عليه بابه ،ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ،فأرسل إليه يسأل ما خبره ؟فقال: أنا رجل شديد الصوت ،وأنا أخاف أن يكون حبط عملي .فقال صلى الله عليه وسلم: ( لست منهم ،بل تعيش حميدا ،وتقتل شهيدا ،وتدخل الجنة )5 .
فتثبت ثباتا حميدا يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب ،حتى مات شهيدا ،وترك ذكرا حميدا .