وقوله:( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ):هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - [ فوق صوته] . وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما .
وقال البخاري:حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال:كاد الخيران أن يهلكا ، أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر - قال نافع:لا أحفظ اسمه - فقال أبو بكر لعمر:ما أردت إلا خلافي . قال:ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله:( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) الآية ، قال ابن الزبير:فما كان عمر يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه:يعني أبا بكر رضي الله عنه . انفرد به دون مسلم .
ثم قال البخاري:حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، حدثني ابن أبي مليكة:أن عبد الله بن الزبير أخبره:أنه قدم ركب من بني تميم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر:أمر القعقاع بن معبد . وقال عمر:بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر:ما أردت إلى - أو:إلا - خلافي . فقال عمر:ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت في ذلك:( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) ، حتى انقضت الآية ، ( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ) الآية [ الحجرات:5] .
وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا .
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حصين بن عمر ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي بكر الصديق قال:لما نزلت هذه الآية:( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) ، قلت:يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار .
حصين بن عمر هذا - وإن كان ضعيفا - لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة [ رضي الله عنه] بنحو ذلك ، والله أعلم .
وقال البخاري:حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد ، أخبرنا ابن عون ، أنبأني موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس ، فقال رجل:يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه . فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه ، فقال له:ما شأنك ؟ فقال:شر ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حبط عمله ، فهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى:فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال:"اذهب إليه فقل له:إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة "تفرد به البخاري من هذا الوجه .
وقال الإمام أحمد:حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال:لما نزلت هذه الآية:( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) إلى:( وأنتم لا تشعرون ) ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال:أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينا ، ففقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له:تفقدك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لك ؟ قال:أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجهر له بالقول حبط عملي ، أنا من أهل النار . فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بما قال ، فقال:"لا بل هو من أهل الجنة ". قال أنس:فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة . فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال:بئسما تعودون أقرانكم . فقاتلهم حتى قتل .
وقال مسلم:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال:لما نزلت هذه الآية:( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) إلى آخر الآية ، جلس ثابت في بيته ، قال:أنا من أهل النار . واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ:"يا أبا عمرو ، ما شأن ثابت ؟ أشتكى ؟ "فقال سعد:إنه لجاري ، وما علمت له بشكوى . قال:فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ثابت:أنزلت هذه الآية ، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنا من أهل النار . فذكر ذلك سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"بل هو من أهل الجنة ".
ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدارمي ، عن حيان بن هلال ، عن سليمان بن المغيرة ، به ، قال:ولم يذكر سعد بن معاذ . وعن قطن بن نسير عن جعفر بن سليمان ، عن ثابت ، عن أنس بنحوه . وقال:ليس فيه ذكر سعد بن معاذ .
حدثنا هريم بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر عن ثابت ، عن أنس قال:لما نزلت هذه الآية ، واقتص الحديث ، ولم يذكر سعد بن معاذ ، وزاد:فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة . .
فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة ، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ . والصحيح:أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودا ; لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم ، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس ، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس ، عن أبيه قال:لما نزلت هذه الآية:( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) قال:قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي ، قال:فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان ، فقال:ما يبكيك يا ثابت ؟ قال:هذه الآية ، أتخوف أن تكون نزلت في وأنا صيت ، رفيع الصوت . قال:فمضى عاصم بن عدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:وغلبه البكاء ، فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها:إذا دخلت بيت فرسي فشدي علي الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه ، وقال:لا أخرج حتى يتوفاني الله عز وجل ، أو يرضى عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال:وأتى عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبره ، فقال:"اذهب فادعه لي ". فجاء عاصم إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس ، فقال له:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك . فقال:اكسر الضبة . قال:فخرجا فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما يبكيك يا ثابت ؟ ". فقال:أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في:( لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ ". فقال:رضيت ببشرى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أرفع صوتي أبدا على صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال العلماء:يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يكره في حياته ; لأنه محترم حيا وفي قبره ، صلوات الله وسلامه عليه ، دائما . ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ; ولهذا قال:( ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) ، كما قال:( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) [ النور:63] .
وقوله:( أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) أي:إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماوات والأرض ".
ثم ندب الله عز وجل ، إلى خفض الصوت عنده ، وحث على ذلك ، وأرشد إليه ، ورغب فيه ، فقال:( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) أي:أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا ( لهم مغفرة وأجر عظيم ) .
وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد:حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال:كتب إلى عمر يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها ، أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها ؟ فكتب عمر ، رضي الله عنه:إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ( أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ) . قال:وأنزل الله:( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ) .
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عز وجل ، عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه] أنه سمع صوت رجلين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء ، فقال:أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال:من أين أنتما ؟ قالا:من أهل الطائف . فقال:لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا . وقال العلماء:يكره رفع الصوت عند قبره ، كما كان يكره في حياته ; لأنه محترم حيا وفي قبره ، صلوات الله وسلامه عليه ، دائما . ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ; ولهذا قال:( ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ) ، كما قال:( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) [ النور:63] .
وقوله:( أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) أي:إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة . وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماوات والأرض ".