وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ،أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم ،وذلك في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
وقال بعض العلماء في قوله:{وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض .قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً ،حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ،وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ،أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ،وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ،وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها .انتهى محل الغرض منه .
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر ،وقد قال القرطبي: إنه لا يحبط عمله بغير شعوره وظاهر الآية يرد عليه .
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ،ما نصه: وقوله عز وجل:{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه ،فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ،كما جاء في الصحيح «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقى لها بالاً يكتب له بها الجنة ،وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض » ا ه محل الغرض منه بلفظه .
ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته ،وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط .وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ،ولا يليق ،وإقرارهم عليه من المنكر .
وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم ،وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً .
مسألتان
الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به ردة عن الإسلام وكفر بالله .
وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته:{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [ التوبة: 65- 66] .
المسألة الثانية
وهي من أهم المسائل ،اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته ،التي لا يجوز صرفها لغيره ،وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم ،ليضع كل شيء في موضعه ،على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة .
وإذا عرفت ذلك فاعلم: أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله .
فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده ،لأنه من خصائص الربوبية فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو إتباعه والإقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا .
وقد بين جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه ،أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده ،في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى .
من أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل أعني قوله تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} إلى قوله:{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ النمل: 59 -64] .
فإنه جل وعلا قال في هذه الآيات الكريمات العظيمات:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [ النحل: 59] .
ثم بين خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده فقال:{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [ النمل: 60] .
فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض ،وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة ،التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله ،من خصائص ربوبية الله ،ولذا قال تعالى بعدها{أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به ،والجواب لا .لأنه لا إله إلا الله وحده .
ثم قال تعالى:{أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِي وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [ النمل: 61] .
فهذه المذكورات أيضاً ،التي هي جعل الأرض قراراً ،وجعل الأنهار خلالها ،وجعل الجبال الرواسي فيها ،وجعل الحاجز بين البحرين من خصائص ربوبيته جل وعلا ،ولذا قال بعد ذكرها أإله مع الله ؟والجواب لا .
فالاعتراف لله جل وعلا بأن خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات ونحو ذلك مما ذكر في الآيات من خصائص ربوبيته جل وعلا هو الحق ،وهو من طاعة الله ورسوله ،ومن تعظيم الله وتعظيم رسوله بالإقتداء به صلى الله عليه وسلم في تعظيم الله .
ثم قال تعالى وهو محل الشاهد{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [ النمل: 62] .
فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا ،وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته جل وعلا ،ولذا قال بعدها أإله مع الله قليلاً ما تذكرون .
فتأمل قوله تعالى:{أَإلٌه مَّعَ الله} مع قوله:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [ النمل: 62] تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجؤوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين ،لا فرق في كونه من خصائص الربوبية ،بينه وبين خلق السماوات والأرض ،وإنزال الماء وإنبات النبات ،ونصب الجبال وإجراء الأنهار ،لأنه جل وعلا ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد ،وأتبع جميعه بقوله:{أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ} [ النمل: 60-64] .
فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله:{أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ} فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية .
ثم قال تعالى:{أَمَّن يَهْدِيكُمْ في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يدي رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ النمل: 63] .
فهذه المذكورات التي هي هدي الناس في ظلمات البر والبحر ،وإرسال الرياح بشراً ،أي مبشرات ،بين يدي رحمته التي هي المطر ،من خصائص ربوبيته جل وعلا .
ولذا قال تعالى:{أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ} ،ثم نزه جل وعلا نفسه عن أن يكون معه إله يستحق شيئاً مما ذكر فقال جل وعلا:{تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
ثم قال تعالى:{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ النمل: 64] .
فهذه المذكورات التي هي بدء خلق الناس وإعادته يوم البعث ،ورزقه للناس من السماء بإنزال المطر ،ومن الأرض بإنبات النبات ،من خصائص ربوبيته جل وعلا ولذا قال بعدها{أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ} .
ثم عجَّز جل وعلا كل من يدعي شيئاً من ذلك كله لغير الله ،فقال آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز:{قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [ النمل: 64] .
وقد اتضح من هذه الآيات القرآنية ،أن إجابة المضطرين الداعين ،وكشف السوء عن المكروبين ،من خصائص الربوبية كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء ،وإنبات النبات ،والحجز بين البحرين إلى آخر ما ذكر .
وكون إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية ،كما أوضحه تعالى في هذه الآيات من سورة النمل جاء موضحاً في آيات أخر ،كقوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ يونس: 107] .
وقوله تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدُيرٌ} [ الأنعام: 17] .
وقوله تعالى:{مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} [ فاطر: 2] .
فعلينا معاشر المسلمين أن نتأمل هذه الآيات القرآنية ونعتقد ما تضمنته ونعمل به لنكون بذلك مطيعين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم معظمين لله ولرسوله ،لأن أعظم أنواع تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،هو إتباعه والإقتداء به ،في إخلاص العبادة لله جل وعلا وحده .
فإخلاص العبادة له جل وعلا وحده ،هو الذي كان يفعله صلى الله عليه وسلم ويأمر به وقد قال تعالى:{وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [ البينة: 5] وقال تعالى:{قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} إلى قوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ ديني فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ} [ الزمر: 11- 15] .
واعلم أن الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون علماً يقيناً أن ما ذكر من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ،من خصائص الربوبية وكانوا إذا دهمتهم الكروب ،كإحاطة الأمواج بهم في البحر ،في وقت العواصف يخلصون الدعاء لله وحده ،لعلمهم أن كشف ذلك من خصائصه فإذا أنجاهم من الكرب رجعوا إلى الإشراك .
وقد بين الله جل وعلا هذا في آيات من كتابه كقوله تعالى:{هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ في الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ} [ يونس: 22 – 23] .
وقوله تعالى:{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} [ الأنعام: 63 -65] الآية .
وقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين َبَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [ الأنعام: 40 -41] .
وقوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ في الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [ الإسراء: 67 -68 – 69] .
وقوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُواْ في الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [ العنكبوت: 65] .
وقوله تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [ لقمان: 32] .
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ في الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ} [ الإسراء: 67] أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فاراً منه إلى بلاد الحبشة فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة فجاءتهم ريح عاصف .
فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده .فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ،فإنه لا ينفع في البر غيره .اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفاً رحيماً ،فخرجوا من البحر فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه .انتهى .
وقد قدمنا هناك أن بعض المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من هؤلاء الكفار المذكورين لأنهم في وقت الشدائد يلجؤون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله ،وبما ذكر تعلم أن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله جل وعلا كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ومحبة الصالحين كله من أعظم الباطل ،وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله .
لأن صرف الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح مستوجب سخط الله وسخط النبي صلى الله عليه وسلم وسخط كل متبع له بالحق .
ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه ،وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء ،والله جل وعلا يقول:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ آل عمران: 64] .
بل الذي كان يأمر به صلى الله عليه وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [ آل عمران: 64] .
واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلاً متديناً في زعمه مدعياً حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل الماء من السماء وأنبت به الحدائق ذات البهجة ،وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً إلى آخر ما تضمنته الآيات المتقدمة ،فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله المتعدين لحدود الله .
وقد علمت من الآيات المحكمات أنه لا فرق بين ذلك وبين إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين .
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه ،وإخلاص العبادة له ،وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم بإتباعه والإقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والإقتداء به في كل ما جاء به .
وألا نخالفه صلى الله عليه وسلم ولا نعصيه ،وألا نفعل شيئاً يشعر بعدم التعظيم والاحترام ،كرفع الأصوات قرب قبره صلى الله عليه وسلم ،وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله ،ويعظموا نبيه صلى الله عليه وسلم تعظيم الموافق لما جاء به صلى الله عليه وسلم ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيماً وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله ،ورسوله صلى الله عليه وسلم{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أماني أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [ النساء: 123 -124] .
واعلم أيضاً رحمك الله: أنه لا فرق بين ما ذكرنا من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ،وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله ،كالحصول على الأولاد والأموال وسائر أنواع الخير .
فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضاً من خصائص ربوبيته جل وعلا كما قال تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض} [ يونس: 31] وقال تعالى:{فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ} [ العنكبوت: 17] .وقال تعالى:{يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} [ الشورى: 49] الآية .وقال تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} وقال تعالى:{وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} إلى غير ذلك من الآيات .
وفي الحديث «إذا سألت فاسأل الله » .
وقد أثنى الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [ الأنفال: 9] الآية .فنبينا صلى الله عليه وسلم كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجؤوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء .فعلينا أن نتبع ولا نبتدع .
تنبيه
اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة ،وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات فيخلص تقربه بذلك إلى الله ولا يصرف شيئاً منه لغير الله كائناً ما كان .
والظاهر أن ذلك يشمل هيئات العبادة فلا ينبغي للمسلم عليه صلى الله عليه وسلم أن يضع يده اليمنى على اليسرى كهيأة المصلي ،لأن هيأة الصلاة داخلة في جملتها فينبغي أن تكون خالصة لله ،كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيئاتها لله وحده .