{وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ورَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ 40 وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ولَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ 41} [ 4041] .
تعليق على آية
{وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ومِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ}
ولا يروي المفسرون فيما اطلعنا عليه كذلك رواية في مناسبة نزول الآيتين ،وهما معطوفتان على ما قبلهما فتكونان والحالة هذه استمرارا للسياق .وقد قال بعض المفسرين{[1161]}: إن الآية الأولى تضمنت معنى التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ؛حيث تقرر أنه إذا كان من قومه من لا يؤمن بما جاء به فإن منهم من آمن وسوف يؤمن به ،وعلى هذا يكون الخطاب الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيهه موجها للمكذبين فقط ليعلنهم في ما إذا أصروا على تكذيبهم أن كلا منهم يتحمل تبعة عمله وكلا منهم بريء مما يعمله الآخر .وبعض المفسرين قالوا{[1162]}: إن الآيتين في صدد الكفار المكذبين ،وإن الآية الأولى تضمنت تقرير أن من الكفار من يؤمن في سرّه بصدق القرآن وصحة الرسالة وإنما يكذب عنادا ومكابرة ،ومنهم من لا يؤمن ولا يصدق .
ويلحظ أن الآيتين معطوفتان على الآيات السابقة لهما التي يدور الكلام فيها على الكفار وتكذيبهم وتقريعهم ،وأن الضمائر فيهما عائدة إليهم أيضا ،وفحوى الآية الثانية قاصر على ما تلهمه روحها على الفريق الكافر فقط ،وليس فيها ما يفيد تقسيمهم إلى مؤمن صادق وكافر ،وهذا يجعلنا نرجح قول الفريق الثاني من المفسرين .
وهناك روايات تذكر أن منهم من كان يقرّ في قرارة نفسه أن القرآن كلام الله ولكنه يعلن تكذيبه مدارة للناس أو عنادا كمثل الروايات التي رويت عن الوليد بن المغيرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فقال: لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ،وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ،وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق ،وإنه يعلو وما يعلى .وكان من نبهاء قريش فعلم بقوله أبو جهل فذهب إليه يؤنبه ويعاتبه ويثير غضبه على النبي صلى الله عليه وسلم حتى تراجع{[1163]} .وفي رواية أخرى أن الوليد جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله عن القرآن فتلا عليه منه ما تيسر فجاء إلى رجال قريش فقال: يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ( يعني النبي صلى الله عليه وسلم ) فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا يهذي من الجنون ،وإن قوله لمن كلام الله ،فخاف رجال قريش أن يؤمن ويعدي غيره ،فجاء إليه أبو جهل يعيره ويوبخه ويثير حميته حتى تراجع{[1164]} .
وفي بعض الآيات القرآنية دلالة ما على ذلك أيضا ،مثل آية سورة القصص التي جاء فيها:{وقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [ 57] حيث تلهم هذه الجملة أن قائليها كانوا يعتقدون في أنفسهم بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والوحي القرآني ولكنهم كانوا يخافون على مركز مكة وما يدرّه عليهم من منافع ويضمنه لهم من أمن .ومثل آية الزخرف التي جاء فيها:{وقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ 31} حيث تلهم هذه الجملة أن قائليها كانوا يعتقدون بصحة الوحي القرآني ولكنهم أنفوا من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم واستكبروا لأن الله لم ينزل القرآن على زعيم كبير من مكة أو الطائف .بل إن مفاوضات رجال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم التي أشارت إليها سورة الإسراء [ 73] السابقة لهذه في التفسير وآية سورة القلم [ 9] وما روي في صددهما على ما شرحناه في تفسير السورتين لتؤيد ذلك أيضا .
وفي الآيتين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن موقف تكذيب المكذبين وإنذار لهم .فعليه أن يتبرأ من عملهم ويعلنهم أنهم وحدهم الذين يتحملون تبعته إذا أصروا على تكذيبه وأن لا يحمل نفسه همّا .وربه أعلم بالمفسدين الذين إنما يقفون موقف التكذيب لفساد أخلاقهم ولإفساد غيرهم وهو القادر عليهم .
وقد يلمح في الآية الثانية بالإضافة إلى ما ذكرناه مبدأ حرية التدين الذي قررته سورة ( الكافرون ) وعلقنا عليه بما فيه الكفاية .
والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن الآية الأولى من الآيتين مدنية .وهذا غريب جدا فهي شديدة الانسجام مع الآية الثانية ومع السياق السابق معنى وسبكا ،ومضمونها متصل بظروف ومشاهد العهد المكي ولم نر ما اطلعنا عليه من كتب التفسير تأييدا لذلك وكل هذا يسوغ الشك في الرواية .
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن الآية الثانية منسوخة بآيات القتال .وهذا يذكر في سياق كل آية مكية مماثلة .والمتبادر أن هذا إنما يصح بالنسبة إلى من يقف موقف العدوان من الإسلام والمسلمين وحسب وقد شرحنا هذا الأمر في سياق سورة ( الكافرون ) شرحا وافيا .