{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون 41 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون( 42 )} .[ 41-42] .
في الآيتين تنويه وبشرى للذين هاجروا بسبب ما وقع عليهم من أذى وظلم ،وتمسكا بدين الله الحق ،فلسوف ييسر الله لهم الخير والنجاح والمقام الحسن الأمين في الدنيا ثم يكون أجرهم في الآخرة أعظم وأكبر ؛لأنهم صبروا على ما وقع عليهم وهجروا وطنهم في سبيل الله ودينه وجعلوا اعتمادهم وتوكلهم على الله تعالى .
تعليق على آية
{والذين هاجروا في الله} وما بعدها
ويبدو لأول وهلة أن الآيتين غير متصلتين بالسياق السابق ولا باللاحق وأنهما فصل مستقل ،غير أن عودة السياق بعدهما إلى التنديد بالكفار وإنذارهم تسوغ القول أنهما جاءتا استطراديتين لبيان ما كان من أثر مواقف الكفار وكيدهم والتنويه بالذين ثبتوا على دين الله الحق وتحملوا الشدائد ثم هاجروا تمسكا به ،وهما والحالة هذه غير بعيدتين ولا غريبتين عن جو السياق .
وقد روى المفسرون: أن الآيتين نزلتا في بعض المسلمين الذين منعهم قومهم عن الهجرة إلى المدينة وسجنوهم وأرادوا فتنتهم فصبروا وثبتوا ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا{[1243]} كما رووا أنهما نزلتا في الذين هاجروا إلى الحبشة حينما اشتد أذى المشركين على الذين آمنوا من قومهم{[1244]} .وهذه الرواية هي الأصح ؛لأن الرواية الأولى تقتضي أن تكون الآيتان مدنيتين ،مع أنه لا خلاف في مكيتهما .ولقد احتوت الآية العاشرة من سورة الزمر التي نزلت قبل هذه السورة بأمد غير بعيد حضا للمسلمين على تقوى الله ،ووعدا بالخير والعاقبة الحسنة في الدنيا للذين أحسنوا ،وتنبيها إلى أن أرض الله واسعة وأن الله موف للصابرين أجرهم بغير حساب ،وإعلانا بأن الله قد أمر نبيه بعبادة الله وحده وبالإخلاص له مما انطوى فيه إلهاما أو إذنا للمضطهدين من المسلمين بالهجرة وتلقينا بوجوب التمسك بدينهم فجاءت الآيتان تخبران أن فريقا من هؤلاء قد اتبعوا إلهام الله أو إذنه فخرجوا مهاجرين في سبيل دينه وتعدانهم بالخير والفلاح والأجر الكبير في الدنيا والآخرة .
وروايات السيرة النبوية تذكر{[1245]} أنه لما ظهر الإسلام وكثر الذين آمنوا من قريش – وخاصة من شبابهم – ثار كبار ذويهم من المشركين عليهم وأخذوا يؤذونهم ويضطهدونهم ويحاولون ردهم عن الإسلام فأشار عليهم النبي بالهجرة إلى بلاد الحبشة وقال لهم: ( إن فيها ملكا لا تظلمون عنده ) .وقد هاجر في دفعة أحد عشر رجلا وأربع نساء معظمهم من شباب قريش ومن أبناء زعماء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم .وقد بلغهم أن المشركين آمنوا فعادوا وظهر لهم عدم صحة ما بلغهم وعاد قومهم إلى اضطهادهم فهاجروا مرة أخرى ،وانضم إليهم غيرهم حتى بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة معظمهم من قريش ومن أبناء المشركين المناوئين للدعوى أو أقاربهم حتى لم يكد بطن من بطون قريش وأسرها الكبيرة إلا وكان منها بعضهم نساء أو رجالا{[1246]} ،وظلوا هناك إلى السنة الهجرية السادسة ،حيث صار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منعة وقوة في المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أحضرهم إليها .وقد أوّل المؤولون ومنهم الشعبي جملة{لنبوئنهم في الدنيا حسنة} بما كان من عودتهم إلى المدينة ونزولهم فيها المنزل الحسن وهذا صواب .وبه تحققت معجزة قرآنية بما كان من صدق وعد الله تعالى لهم والله لا يخلف الميعاد .
وفي الآية مع ذلك تلقين مستمر المدى لكل من ظلم فهاجر من ظلمه حيث تمده بمدد روحاني في اليقين بأن الله عز وجل ناصره ومبوّئه المبوّأ الحسن في الدنيا بالإضافة إلى الأجر الأخروي الأكبر جزاء صبره وتوكله على الله تعالى .
ولقد كان من المؤمنين كثير من الفقراء والمساكين والأرقاء وأهل الكتاب من قاطني مكة ،فرواية كون معظم المهاجرين إلى الحبشة من الأسر القرشية ،ومنهم من أبناء كبار الزعماء وأقاربهم تدل على أن نقمة هؤلاء الزعماء واضطهادهم كانت أشد على أبنائهم وأقاربهم وأبناء الأسر القرشية في الدرجة الأولى خشية أن تسري عدواهم إلى غيرهم من أبناء هذه الأسر في الدرجة الأولى ،وفي هذا ما فيه من صور السيرة النبوية في العهد المكي .
ولقد حاول بعض المستشرقين أن يغمزوا المهاجرين في صبرهم وجلدهم ويعزوا هجرتهم إلى الرغبة في النجاة بأنفسهم ولو كان في ذلك تخل عن النبي صلى الله عليه وسلم .وفي هذا تجن آت من سوء النية والجهل بظروف البيئة النبوية فالذين هاجروا كانوا بين أمرين إما أن يتعرضوا لأذى شديد قد تخونهم فيه أعصابهم فيرتدوا وإما أن يصبروا حتى يودي الصبر بحياتهم .وقد وقعت الصورتان في بعض الذين آمنوا على ما روته الروايات وأشير إليه في سورة البروج ثم في بعض آيات سورة النحل هذه على ما سوف يأتي شرحه بعد .وليس في الصبر حتى الموت مصلحة للمسلمين ،والخوف من انهيار الأعصاب واقع فليس في التفادي من الصورتين محل للغمز بل فيه دليل على تعلق المهاجرين بدينهم وتضحيتهم في سبيله بوطنهم وأموالهم لأن منهم من كان غنيا وهذا مستوجب للثناء والإعجاب .وكانت الهجرة بإذن النبي وإلهام القرآن وأسلوب الآيتين دليل على أن عملهم كان مستحقا للثناء حقا ،وهو حاسم ؛لأنه وحي الله الذي بلغه رسوله .
والغريب أن الغامزين يتجاهلون صورة واقعة متكررة في كل ظرف ومكان منذ الأجيال البشرية الأولى إلى الآن وإلى ما شاء الله بسبيل شفاء غل النفس بالتعليق والغمز .