المؤمنون
{ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كان يعلمون ( 41 )} .
الهجرة ترك الدار لغاية سامية أو لطلب الرزق ، وقد حبب الله تعالى في هاتين الحالتين ، فقال تعالى:{ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة . . .( 100 )} [ النساء] .
وقد كانت هجرتان:هجرة إلى الحبشة فرارا بالدين من الذين ظلموا ، ومن هؤلاء عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب وعدد من الصديقين والصديقات بلغت عدتهم ثمانين أو يزيد ، والهجرة الكبرى إلى المدينة وفيها هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن هذه السورة مكية ، أي أنها كانت قبل الهجرة الكبرى فالذين هاجروا في الآية هم المهاجرون إلى الحبشة .
وقوله تعالى:{ والذين هاجروا في الله} الفاء هنا للسببية ، أي لأجل الله تعالى ، وذكر الفاء يومئ إلى أنهم فنوا في الله فصاروا لا يفكرون في غيره ، وصار هو ملء قلوبهم ونفوسهم وعقولهم ، وأحاسيسهم فكلهم له سبحانه وتعالى لا يفكرون إلا فيه ، ويهون كل عذاب في سبيله .
وقال سبحانه وتعالى:{ من بعد ما ظلموا} و{ ما} هنا مصدرية ، أي من بعد ظلمهم ، وقد كتب الله تعالى لهم الجزاء الحسن لصبرهم على الأذى ، ونزول الظلم بهم ، وهجرتهم ببعدهم عن الخلان والأحباب ، والديار والأموال ، وبيع أنفسهم لله تعالى حتى لا يطلبوا إلا مرضاته .
وقد قال تعالى في جزائهم:{ لنبوئنهم في الدنيا حسنة} ، ( اللام ) لام القسم وهي مؤكدة ، والقسم مؤكد ، ونون التوكيد مؤكدة ، والحسنة الأمر الذي يكون حسنا لا إساءة فيه في ذاته ولا في مغبته ، و ( نبوئنهم ) نمكنهم في الحسنة كأنهم يفتقدونها ويستمكنون منها ، والحسنة في الدنيا التي نالت المؤمنين والمهاجرين من بعد هي العيش الحسن ، وقد نزلوا من بعد الحبشة المدينة هم ومن كانوا في مكة يلاقون الظلم والإيذاء بكل أنواعه والاستهزاء والسخرية ، فالتقوه في دار الهجرة .
ومن حسنة الدنيا النصر على الشرك وأهله ، وغنائم النصر ، والتعاون والإخاء ، وإقامة حياة فاضلة في المدينة .
هذه حسنة الدنيا{ ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} ، ( اللام ) لام الابتداء للتوكيد ، وأجر الآخرة أكبر لأنه نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، فأكل الجنة دائم لا ينتهي ، وقال:{ لو كانوا يعلمون} ، والضمير في يعلمون يعود إلى المؤمنين ،{ لو} تكون للتمني ، أي ليتهم يعلمون ذلك علم العيان والرؤية ، لا علم الخبر والذكر ، وفي ذلك بيان لفضله ، وعظم شأنه ، كأنه فوق الخيال والتصور ، واختار الزمخشري أن يكون للكفار ولكنه بعيد ، وقد قال تعالى في سبب استحقاقهم ذلك الجزاء العظيم .
{ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ( 42 )} .