{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ( 16 )} [ 16] .
داحضة: ساقطة أو باطلة .
تقرير الآية بأن حجة الذين يجادلون في وحدة الله وصفاته واستحقاقه للعبادة والولاء وحده وما في دعوة رسوله من حق وصدق قد سقطت وبطلت بعد أن ظهر الحق واستجاب إلى الدعوة أصحاب الرغبة الصادقة في الحق البريئون من العناد والمكابرة وعلى الذين يحاجون ويكابرون بعد ذلك غضب الله وعذابه الشديد .
تعليق على آية
{والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة}
والآية جاءت معقبة على الآية السابقة لها مباشرة في الدرجة الأولى وعلى الفصل القرآني جميعه بصورة عامة .وقد انطوى فيها رد على المشركين الذين رجحنا أنهم هم الذين كانوا يتحججون بما عليه أهل الكتاب من انقسام وخلاف ،ومعنى الاستعلاء عليهم والإفحام لهم في الآية قوي .
والمتبادر أن الآية قد عنت استجابة من استجاب إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب بالإضافة إلى من استجاب إليها من العرب .وهذا مما يقوي في الآية ذلك المعنى ،ومما يقويه بقوة وروعة وشمول أن الذين استجابوا إلى الدعوة في العهد المكي كانوا يمثلون البشرية جميعا تقريبا تمثيلا تاما على اختلاف الطبقات والألوان والأقطار والأجناس والأديان والنحل ؛حيث كان فيهم الغني والفقير والشريف والمسكين والزعيم والصعلوك والشباب والشيوخ والنساء والرجال والصبيان والفتيات والأحرار والأرقاء والتاجر والصانع والزارع والحضري والبدوي والقرشي وغير القرشي والشامي والمصري والعراقي واليمني والفارسي والرومي والحبشي والسوداني والمشرك والصابئي والحنيفي والوثني والكوكبي والمجوسي واليهودي والنصراني .فكان في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكونت تحت زعامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نموذج رائع للمجتمع الإنساني الذي استهدفت الرسالة المحمدية إقامته من جميع الأجناس والألوان والطبقات يدينون لرب واحد شامل الربوبية ،متصف بجميع صفات الكمال منزه عن الشوائب في نطاق الأخوة والمساواة والحرية والعدل والإحسان والبر والتعاون والتضامن والتواد والمحبة والسلام والتسامح .لا يطغى فيه ولا يتعالي قوي على ضعيف ولا غني على فقير ولا زعيم على صعلوك ،يؤخذ من غنيهم لفقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم ،ويعين قادرهم عاجزهم ويؤيد أعلاهم أدناهم .ويجيز أدناهم على أعلاهم ويتساوى نساؤهم مع رجالهم في الحقوق والواجبات والتكاليف والنتائج الدنيوية والأخروية يتفانون في الله ورضوانه ويجاهدون في سبيله ويحملون راية دعوته ويدعون إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلا من ظلم وبغى .لا يستبد أحد منهم في رأي ،وأمرهم شورى بينهم .يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يجتنبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويتقون الله في السر والعلن ويقومون بواجبهم نحو الله والناس لا يبغون ولا يعتدون على أحد ولا يرضخون لظلم ولا بغي ،لا يضيقون بمن يريد أن يحتفظ بدينه إذا هو وادهم وسالمهم بل يبرونه ويعطونه حقه ويحكمون له إذا تقاضى عندهم بالحق وتكون له حريته الدينية والمدنية والقضائية يطيعون ولاة أمورهم الذين يجب أن يكونوا منهم فيما لا معصية فيه .ويأخذون حظهم من الدنيا كسبا وسعيا ومتاعا .ويستمتعون بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق من دون إسراف وينتفعون بكل ما في الكون من نواميس ومنافع مما احتواه القرآن في مختلف فصوله المكية والمدنية واحتوته السنة النبوية الثابتة القولية والفعلية .
وهذا التمثيل للبشرية في الإسلام ظل مستمرا بعد الهجرة مع اتساع نطاقه ثم ظل مستمرا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اتساع نطاقه كذلك إلى الآن ،وسيظل إلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله ويظهر الإسلام على الدين كله مما يزيد معنى العبارة القرآنية قوة بعد قوة .