{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا ( 1 ) نَقْتَبِسْ ( 2 ) مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( 13 ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( 14 ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 15 )} ( 12 – 15 ) .
في الآيات: حكاية لما سوف يكون عليه أمر المؤمنين المخلصين والمنافقين يوم القيامة ؛حيث يسعى النور بين يدي الأولين وعن أيمانهم فتضاء بذلك طريقهم ضوءا قويا ويهتف لهم بالبشرى بالخلود بالجنات وفي ذلك ما فيه من الفوز العظيم ،وحيث ينادي المنافقون المؤمنين ملتمسين انتظارهم لاقتباس نور من نورهم ليسيروا فيه فيقال لهم: ارجعوا وابحثوا عن نور من مكان آخر ،ثم يضرب بين الفريقين بسور في إحدى ناحيته الرحمة والنعيم للمؤمنين ،وفي إحداهما العذاب الشديد للمنافقين ،وحيث ينادي المنافقون المؤمنين مرة أخرى قائلين لهم ألم نكن معكم ومنكم في الدنيا ؟فيقولون لهم: نعم .ولكن قلوبكم كانت فاسدة وكنتم مرتكسين في الريبة والشك تتربصون سير الأمور ،وقد غرتكم الأماني التي كنتم تتمنوها وغركم الشيطان والغرور بالله عز وجل فظننتم أنكم لن تحشروا ولن يحاسبكم الله ،فكان مصيركم ما ترونه الآن من حكم الله وقضائه ،وحيث قال لهم: إنه لن يؤخذ منكم ولا من الكافرين فدية ولن ينصركم ناصر ،وستكون النار هي مثواكم ومولاكم وبئست هي من مثوى ومولى .
ولقد قال بعض أهل التأويل من الصدر الأول على ما ذكره الطبري وغيره: إن كلمة{وبأيمانهم} في الآية الأولى عنت كتب الأعمال التي تعطي للمؤمنين بأيديهم اليمنى على ما ذكر في آيات أخرى كما قال بعضهم: إنها مع كلمة{بين أيديهم} عنت أن النور يكون مضيئا ساطعا للمؤمنين من جميع جوانبهم ،وقد يكون هذا القول هو الأوجه الأكثر اتساقا مع فحوى الآية ،وهو ما أخذنا به في شرح الآيات السابقة .
ولقد ذكر الطبري والبغوي عزوا إلى ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار أن السور المذكورة في الآية الثانية ،وهو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب والظاهر هو الموقع المعروف بوادي جهنم كما يسميه اليهود .وهذا قول غريب بعيد عن فحوى الآيات التي تحكي ما سوف يكون الأمر عليه يوم القيامة .
وقد توقف الطبري فيه وقال إن أولى الأقوال بالصواب أنه سور سوف يقوم حاجزا بين أهل الجنة وأهل النار يوم القيامة .وهو الوجيه والصواب .والله أعلم .
تعليق على الآية:{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ........................} الخ
والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
ولم نطلع على رواية في مناسبة خاصة لنزول الآيات .والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب واستطراد .وكلمة:{يوم} التي بدأت بها متصلة بالجملة السابقة لها مباشرة كأنما تقول: إن هذا اليوم هو الذي يضاعف الله فيه للذين يقرضونه قرضا حسنا الأجر الكريم .
وأسلوب الآيات أسلوب تنويه وتطمين وبشرى للمخلصين المؤمنين وتنديد وتقريع وإنذار للمنافقين ،وفيها قرائن على ما ذكرناه في سياق الآيات السابقة أنها بسبيل الإشارة إلى مواقف مزعجة من مرضى القلوب والمستجدين .ففي تلك الآيات تنديد وعتب وتعجب ونفي لعذر المترددين والمقصرين وفي هذه الآيات حكاية لما سوف يرد به على المنافقين حينما يستغيثون بالمؤمنين ويعتبون عليهم لتخليهم عنهم .
والرد قوي لاذع متناسب مع ما تستحقه طبقة المنافقين على مواقفها الخبيثة التي فيها كيد وتشكيك وإزعاج ودس وتقصير وتثبيط وتربص وفيه تلقين مستمر المدى ،فمثل هذه الطبقة لا ينعدم في المجتمعات .فيجب أن تقابل من المخلصين بالنفرة والإنكار والاشمئزاز والتنديد والتخلي والتكذيب والفضيحة ،فضلا عن استحقاقها من الله تعالى الخزي والعذاب في الآخرة .
وذكر المنافقات مع المنافقين قد تكرر في آيات أخرى في سور مدنية سابقة .ونبهنا على ما في اختصاصهن بالذكر من دلالة على نشاط المرأة العربية ومساهمتها في أعمال النفاق الخبيثة .وذكرهن في هذه السورة التي نزلت بعد الفتح المكي يدل على أن المرأة ظلت تقوم بنشاطها إلى جانب الرجل في تلك الأعمال إلى أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ،وأول من يؤذن له برفع رأسه فانظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم فقال له رجل: يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين أمة نوح إلى أمتك ؟فقال: أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ،ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ) والحديث لم يرد في الصحاح .وإذا صح فإنه ينطوي فيه بالإضافة إلى الخبر الغيبي عن مشاهد الآخرة بشرى نبوية تطمينية من مقاصدها التنويه بما كان من نعمة الله على المسلمين بالهدى والحث على صالح العمل لإحراز خير الدرجات عند الله في الآخرة .
ولقد روى الطبري والبغوي عن قتادة في سياق هذه الآيات حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه: ( إن من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك وإن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ) وروي أن عبد الله بن مسعود قال: ( يؤتون من نورهم على قدر أعمالهم ،فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ،ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد أخرى ) وهذان الحديثان لم يردا في الصحاح .فإن صحا فإنه يبدو من خلالهما إشارة إلى ما هو طبيعي من تفاوت درجات المؤمنين ونورهم ،وقد انطويا على حث على صالح الأعمال وقوة الإخلاص ليكون النور ساطعا وهاجا .
ولقد جاء في الآية ( 8 ) من سورة التحريم التي سبق تفسيرها جملة متشابهة لبعض ما جاء في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها مع فرق في الأسلوب ذي مغزى ففي آية التحريم:{يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ( 8 )} وليس في الآية التي نحن في صددها هذا الدعاء ،وإنما بشرى بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار ..
وقد يكون في هذا الاختلاف ما عنته الأحاديث من اختلاف الدرجات .والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاء كل منهما بالأسلوب الذي جاءت به حسب المناسبة أو الظرف الذي نزلت فيه وسياق كل منهما قد يوحي أن الظرف أو المناسبة مختلفان .والله تعالى أعلم .