{ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} .
والاستفهام هنا لإنكار الواقع وهو بمعنى التعجب من عجبهم ، والتوبيخ على أنهم اتخذوا إرسال رجل منهم موضعا للعجب ، فالرسول لا يمكن أن يكون إلا رجلا منهم فلا يصح أن يكون ملكا من الملائكة كما قال تعالى:
{ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون9}( الأنعام ) .
وقد كان تعجبهم لأمور ثلاثة:
أولها- أنه أوحي إلى رجل ، وما كانوا يفهمون أن الرسالات تكون لرجال منهم .
ثانيها- أنه يتيم فقير ، كان يسمى يتيم أبي طالب ، وأنه ليس من الأغنياء وكانوا هم الظلماء .
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم 31}( الزخرف ) .
ثالثها – أنه فوق هذا جاء للإنذار بالبعث فكان قولهم:
{ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين37} ( المؤمنون ) .
وفي هذا أشد العجب من أمرهم كما يقول تعالى:
{ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد . . . .5}( الرعد ) .
هذا تعجبهم ، والإنكار التعجبي من عجبهم لتلك الحقائق الثابتة ، والإرسال لا يكون إلا لرجل كما تلونا ولقوله تعالى:
{ فل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنبن لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا95}( الإسراء ) .
وأنكروا أنه يتيم فقير وهم يعلمون أنه من بيت الذروة من قريش ، وإذا كان يتيم أبي طالب ، فأبو طالب كان شيخ البطحاء وتدين قريش كلها له ، كما تدين لأبيه عبد المطلب ولجده هاشم ، وأن النبوة لا تختار بالغنى ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة تدين له قريش كلها بالخلق الكريم والصدق والأمانة حتى سمي بالأمين ولا يمكن أن يكون المال والولد مقومات النبوة إنما الصدق والأمانة ، والله هو الذي يختار كقوله تعالى:
{ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى . . .37}( سبأ ) .
ولا ينبغي أن يعجبوا من الإنذار بالبعث والحساب والجزاء فإن هذه الدنيا متاعها قليل والعاقبة عند ربك للمتقين ، وإن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى بل جعل حياته في الدنيا عاملا للخير أو عاملا لغيره ، وفي الآخرة يكون الجزاء الأوفى .
ولننظر بعض نظرات إلى النسق السامي .
1- قوله تعالى:{ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل مهنم} أكان للناس – ولهم عقول ومدارك- أن يتعجبوا من هذه الأمور .
2-{ أن أنذر الناس} ( أن ) تفسيرية ، وأنذر الناس هي لإيحاء الذي أوحاه الله تعالى لنبيه ، والإنذار هو بيان ما يكون للكافرين من عذاب أليم ، والبشرى بما يكون للمؤمنين من نعيم مقيم .
3- وقوله تعالى:{ أكان للناس عجبا} يقول الزمخشري عن معنى( اللام ):
( وما الفرق أن تقول"أكان عند الناس عجبا":أنهم جعلوه أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم ) ولعل المعنى الذي يريده الزمخشري أن اللام تفيد هنا أن كان للناس عجبا أن يعجبوا من أنه أوحي إلى رجل منهم ، وأن اللام تفيد الملك ، أو الاختصاص أو الحق أي متى حق أن يتخذوا الرسول بالحق موضع تعجب واستغراب ثم استهزاء ، وقال في بشارة المؤمنين وهو الجزء الأكبر من عمل النبي المبعوث{ وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} وقد بينا معنى البشارة والنذارة ، ولم تذكر الجنان ولا النعيم المقيم كما ذكر سبحانه في آيات كثيرة ، ولكن ذكر ما يوجبه ويتأدى إليه لا محالة وهو أن لهم قدم صدق عند ربهم وهي سبقهم إلى الإيمان والتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم .
وهنا أمران بيانيان يجب أن نشير إليهما بمقدار ما ندرك .
أولهما- عبر عن السبق إلى الإيمان بقوله تعالى:{ قدم صدق} ونقول:إن هذا مجاز عبر فيه باسم الجزء ، وأريد الكل وذلك لأن المراد أن لهم السبق بالصدق ، ولكن لأن السبق يكون بالقدم فهي التي يكون السير السريع أو البطيء فقد عبر عن ذلك ب{ قدم} ، كما يقال في النعم:"لفلان أياد علي"؛ لأن الإعطاء يكون باليد عادة".
الأمر الثاني- قوله تعالى:{ صدق} نقول أنه وعد ، ووعد الله صدق دائما ولكن المؤمنين أيضا قدموا بالصدق وهو الإيمان بالحق ، فصدقوا الرسول وصدقوا ما عاهدوا الله عليه .
يقول الزمخشري:( فإن قلت لم سمي السابقة قدما ، قلت لما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة قدما كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد ) .
وإضافة القدم إلى{ صدق} دلالة على زيادة فضل وإنه من السوابق العظيمة .
هذا ما قاله تعالى بالنسبة للمؤمنين وهو يدل على أنهم بقلوبهم الطاهرة سبقوا إلى التصديق والصدق ، أما الكافرون فقالوا تحت تأثير استغرابهم وتعجبهم إن هذا لساحر مبين ، هذا صوت الاستغراب ، من غير موجبه ، وبدل أن يقولوا آمنا{ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} ، أي بين واضح . حكموا بأنه ساحر مسترسلين في استغرابهم وأكدوا أنه ساحر بالجملة الاسمية ، وبإن المؤكدة وباللام ، والإشارة في هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسوغ لاستغرابهم ، وعجبوا من إرسال رسول منهم ومن قدرة الله تعالى ، ولذا قال تعالى:إن ربكم الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه} .