وقد بين سبحانه أنهم لا يتبعون الأصنام وغيرها مستيقنين ، بل يظنون ظنا بأوهامهم أن لهذه الأصنام وأشباهها قوة وأنها تستحق العبادة ، ولذا قال تعالى:{ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون 36} .
أي أن أكثرهم غلبت عليهم خيالات وأوهام شاعت في جمعهم وانتشرت بينهم واتبعوها جميعا ، فالأفكار الفاسدة الضالة تنبعث من بعض الجماعة وتكثر فيها وتشيع في آحادها فتصير فكرا عاما مضللا ، وعلى العقلاء أن يصدوا هذه الأفكار الباطلة في أول نشوئها حتى لا تصير هي الغالبة ، وبعض المفسرين يقول:إن الأكثر يراد به الجميع ، ونحن نقول على هذا المعنى ، ويقول البيضاوي:"إن أكثرهم ما يتبع في اعتقادهم إلا ظنا مستندا إلى خيالات فارغة فاسدة".
الناس صنفان أحدهما:له عقل مستقيم يدرك ، والثاني:غلبت وسيطرت عليه الخيالات ، فأما الذي آتاه الله تعالى عقلا يدرك فإنه يفكر في خلق السموات والأرض وما بينهما ويأخذ دليلا على وجود خالقهما من الأثر وقوة المؤثر ، ثم يجيء الرسل فيهتدي بهديهم ويتبع ما يدعون إليه ، وهو الذي ينطبق عليه الوصف القرآني الكريم .
{. . . .ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى50}( طه ) ، فالهداية ثمرة العلم بالخلق . والصنف الثاني يقع في أخيلة وهمية تسيطر عليه فلا يأخذ الهداية من الخلق والتكوين ، بل تسيطر عليه الأوهام ؛ فيتوهم في حجر قوة ، ويتوهم في شخص ربوبية ، ولو نادى ليلا نهارا بأنه عبد من عباد الله لا يستنكف عن عبادة الله ولا يستكبر ، وهؤلاء يظنون القوة في غير القوى ، والقدرة في عاجز ، وتكون عقولهم دائما حائرة مضطربة ، ولا يكون منهم اعتقاد ولا يقين قط وكلها ظنون يتصورونها اعتقادا ، ولسان حالهم يقول:{. . . .إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين 32}( الجاثية ) .
هذا بيان لعلمهم الذي يتجاوز الظن ولا يزيد عليه ، ويخيل لهم أنهم يعتقدون ثم يتعصبون له ويعاندون أهل الحق به .
وقد بين سبحانه وتعالى أن الاعتقاد لا يبنى على ظن بل يجب أن يكون على يقين ، ولذا قال تعالى:{ إن الظن لا يغني من الحق شيئا} أي لا يغني بدل الحق ،{ من} هنا بمعنى "بدل"فالحق وهو الأمر الثابت الذي لا ريب فيه لا يطلب بأدلة ظنية بل لا يطلب إلا ببينات قاطعة ، فمعنى{ إن الظن لا يغني من الحق شيئا} أن الظن لا يغني شيئا بدل الأدلة الحق القطعية .
هذه الآية الكريمة تؤكد حقيقتين ثابتتين:
أولهما:أن ما ينتحله أهل الكتاب والمشركون- بشكل عام- والوثنيون مبني على أوهام أوجدت ظنونا جعلوا منها عقائد تعقبوا لها وكأنها حقائق لها براهين أذعنوا لها فما ظنوا إلا ظنا .
ثانيهما:أن التعصب قد يبنى على أوهام وظنون بل إنه سيطرة أوهام وضغف في النفوس وليس بإيمان صادق .
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله:{ إن الله عليم بما يفعلون} ، وفي هذا تأكيد لعلم الله بهم في ظنونهم وأعمالهم وحركات نفوسهم ، وقد أكد هذا سبحانه أولا:بالجملة الاسمية ، وثانيا:ب"إن"المؤكدة ، وثالثا:بالصفة .