ثم بين سبحانه أنه الذي يهديهم ، وأن الأوثان لا تهدي بل يضلون بها ، فقال تعالى:{ قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون35} .
يخاطبهم سبحانه على أنهم عقلاء مدركون لمعنى الهداية والرشاد ويسألهم إذا كان هؤلاء على ما ترون ؟ فهل يهدونكم إلى الحق كشأن التابع للمتبوع .
إن الهداية هي المقياس الإنساني لعلو الإنسان وقد كان في المشركين ذوو رشد ينطقون بالقول الطيب كما ينطق الحكماء منهم:أكثم بن صيفي وعيره ، فهل الأوثان وغيرها يعلونهم بفضل الإرشاد والتوجيه للعمل الصالح فتعبدوها أو تتبعوها لهذا ؟ وحيث لا شيء من ذلك فلا مسوغ للعبادة إلا الضلال .
ولذلك قال تعالى:{ هل من شركائكم من يهدي إلى الحق} الاستفهام داخل على فعل محذوف ، والمعنى هل وجد من شركائكم أي من المعبودات التي زعمتم أنها شركاء لله في العبادة ، من يهدي إلى الحق كما يهدي الله حتى تجعلوه كالله تعالى ، يقال هدي إلى الحق وهدي للحق ، و{ إلى} تتضمن معنى الانتهاء في الهداية إلى الحق ، أي هدي منتهيا في هدايته إلى الحق .
والإجابة عن هذا السؤال ستكون بالسلب لأنها أحجار نحتوها بأيديهم لا تضر ولا تنفع ، فكيف تهدي وترشد ؟ ولذا فرض أن الإجابة بالسلب كما هو شأن من له أعين تبصر وأذان تسمع ، وقد ترتب على هذا الفرض الواقع سؤال آخر فيقول سبحانه:
{ أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي} .
( الفاء ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وحقها التقديم ؛ لأن السؤال مترتب على الإجابة المفروضة في السؤال السابق ، ولكن لأن الاستفهام له الصدارة أخرت عن تقديم ، والاستفهام هنا للإقحام وفيه الفرض الأول ثم بيان أنه لا مساواة بين الفرضين ، أي أن من يهدي إلى الحق احق احق ان يتبع فالاستفهام في هذه الناحية هو انه لا مساواة بين من يهدي الى الحق ومنلا يهدي إلا إذا وجد من يهديه ، فالاستفهام لبيان أحقية الاتباع لمن يرشد ويصلح بدلا ممن لا يستطيع الإرشاد ويحتاج كغيره لهديه ، فمن لا يحتاج أحق ممن يحتاج لإرشاد غيره وهدايته ، وهذا في قوله تعالى:
{ أمن لا يهدي إلا أن يهدي} .
الكلمة{ يهدي} فيها إعلال أصلها ( يهتدي ) وقلبت التاء دالا لقربها من حروف الإطباق ، وأدغمت التاء في الدال وكسرت الهاء للتخلص من الساكنين ، والأصل في التخلص من النطق بالساكنين يكون بالسكر ؛ وهناك قراءة أخرى وهي فتح الهاء ؛ لأن حركة التاء قبل الإدغام كانت الفتح فكان الفتح رمزا للأصل .
وإن هذه الصيغة تفيد أنه لا يهتدي إلا بصعوبة بل لا يهتدي أصلا ، ولكن كان الفرض أن يكون اهتداء بعد أن توجد الهداية الداعية المرشدة ، وكل هذا فيه توبيخ وتبكيت لهم وهم عقلاء ، فيهم من نطق بالحكمة وأرادها ، ثم يتبعون من لا يرشد ولا يهدي .
إن العاقل إذا رأى هاديا مرشدا يدعوه ومعه الأدلة المتضافرة والآيات المبينة ورأى بجواره أصم لا يهدي ولا يرشد فأيهما يتبع ، ولذا قال تعالى:{ فما لكم}وهذا استفهام إنكاري عن حالهم المضطربة الحائرة ، ثم أردفها سبحانه باستفهام يوضح اضطراب فكرهم وفساد تقديرهم فقال تعالى:{ كيف تحكمون} .
وهذا للاستنكار ، فبأي أحوال النفس العاقلة تحكمون على تصرفاتكم هذه !تتركون الهادي المرشد وتتبعون من لا يضر ولا ينفع ، ويصعب أن يهتدي بل لا يمكن أن يهتدي ولو جاءه أهدى الهدي .