{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} ؟ هذا سؤال عن شأن آخر من شؤون الربوبية ، المقتضية لاستحقاق الألوهية ، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية ، وهو الهداية التي تتم بها حكمة الخلق/ كما يدل عليه ذكرها عقبه في آيات أخرى كقوله تعالى:{ الذي خلقني فهو يهدين} [ الشعراء:78]{ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [ طه:50]{ الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} [ الطارق:2 ، 3] وهي أنواع هداية الفطرة والغريزة ، وهداية الحواس ، وهداية العقل ، وهداية التفكر والاستدلال بكل ذلك ، وهداية الدين ، وهو للنوع البشري في جملته كالعقل لأفراده ، وهداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق وتسهيل سبيله ومنع الصوارف عنه .ولما كان لا يمكنهم أن يدّعوا أن أحدا من أولئك الذي أشركوهم في عبادة الله تعالى بادعاء التقريب إليه والشفاعة عنده يهدي إلى الحق من ناحية الخلق والتكوين ، ولا من ناحية التشريع ، لقن الله رسوله الجواب بقوله:
{ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} فعل الهدى يتعدى بنفسه كقوله تعالى:{ اهدنا الصراط المستقيم} [ الفاتحة:6]{ ويهديك صراطا مستقيما} [ الفتح:2]{ لنهدينهم سبلنا} [ العنكبوت:69] ، ويتعدى بإلى كقوله:{ وهديناهم إلى صراط مستقيم} [ الأنعام:87]{ ويهدي إلى صراط مستقيم} [ يونس:25]{ يهدي إلى الرشد} [ الجن:2]{ واهدنا إلى سواء الصراط} [ ص:22] ، وباللام كقوله:{ الحمد لله الذي هدانا لهذا} [ الأعراف:43]{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [ الإسراء:9]{ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} [ الحجرات:17] ، فتعديته بنفسه تفيد اتصال الهداية بمتعلقها مباشرة ، وتعديته باللام تفيد التقوية أو العلة والسببية ، وبإلى للغاية التي تنتهي إليها الهداية ، فهي تشمل مقدماتها وأسبابها ، من حيث كونها موصلة إلى المنتهى المقصود للهادي السائق إليها ، وقد يكون قصده مجهولا لمطيعه كقوله تعالى في الشيطان{ كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} [ الحج:4] ، وكل من هذه الثلاث مستعمل في التنزيل في موضعه اللائق به ، يعلم ذلك من له ذوق سليم في هذه اللغة الدقيقة العالية ، وقد جمع في هذه الآية بين التعدية بالحرفين وبين ترك التعدية- وهو حذف المتعلق الدال على العموم- وكل منها وقع في موقعه الذي تقتضيه البلاغة ، فهاكه ، فلم نر أحدا بينه .
أما الأول فقد عداه بإلى في حيز الاستفهام الإنكاري للإيذان بأنه لا أحد من هؤلاء الشركاء المتخذين بالباطل يدل الناس على الطريق الذي ينتهي سالكه إلى الحق من علم وعمل وهو التشريع ، فهو ينفي المقدمات ونتائجها ، والأسباب ومسبباتها ، ولو عداه بنفسه لما أفاد إلا إنكار هداية الإيصال إلى الحق بالفعل ، دون هداية التشريع الموصلة إليه ، ولو عداه باللام لكان بمعنى تعديته بنفسه إن كانت اللام للتقوية ، أو لإنكار هداية يقصد بها الحق إن كانت للتعليل ، والأول أعم وأبلغ كما هو الظاهر .
وأما الثاني -وهو تعديته باللام - فهو يستلزم الأول ، وإذا جرينا على جواز استعمال اللام بمعنييها -على مذهبنا الذي اتبعنا فيه الإمامين الشافعي وابن جرير- يكون معناه قل:الله يهدي لما هو الحق ؛ لأجل أن يكون المهتدون به على الحق .
وأما الثالث -أي حذف المتعلق- فهو في الشق الثاني من قوله:{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى} .قرأ ( يهدي ) يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال ، وأصله يهتدي كما سيأتي في بحث لغة الكلمة ، وقرأها حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمي ، ومعنى القراءتين مع ما قبلهما نصا واقتضاء:أفمن يهدي إلى الحق ويهدي له ويهديه- وهو الله تعالى- أحق أن يتبع فيما يشرعه أم من لا يهدي غيره ، ولا هو يهتدي بنفسه ، ممن عبد من دونه إلا أن يهديه غيره -أي الله تعالى- إذ لا هادي غيره ؟ وهذا استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى ابن مريم ، وعزيرا ، والملائكة عليهم السلام ، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه ، كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم{ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} [ الأنبياء:73] ، وقال النحاس:الاستثناء منقطع كما تقول:فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع ، أي لكنه يحتاج أن يسمع ، فمعنى ( إلا أن يهدى ) لكنه يحتاج أن يهدى ا ه .فيالله العجب من هذه البلاغة التي يظهر للمدققين في تعبير القرآن من بدائعها في كل عصر ما فات أساطين بلغاء المفسرين فيما قبله .
{ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا تعجيب من حالهم في جعلهم من هذه حالهم من العجز المطلق شركاء مع القادر على كل شيء ، وأورده باستفهامين تقريعيين متوالين ، والمعنى:أي شيء أصابكم وماذا حل بكم حتى اتخذتم شركاء هذه حالهم وصفتهم فجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم الذي لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا هادي لكم ولا لأحد منهم سواه ؟ كيف تحكمون بجواز عبادتهم ، وبما زعمتم من وساطتهم وشفاعتهم عنده بدون إذنه ؟
ومن القراءات اللفظية التي لا يختلف بها المعنى قراءة يهدّي المشددة الدال بفتح الياء والهاء بنقل حركة التاء في أصلها ( يهتدي ) إلى الهاء وإدغامها فيها ، وقراءتها بكسرهما معا ، فالهاء لالتقاء الساكنين والياء لمناسبتها لها ، وقراءتها بفتح الياء وكسر الهاء لمناسبة الدال وهي قراءة حفص التي عليها أهل بلادنا .