هم لا يؤمنون أنه افتراء ويؤمنون أنه كلام لا ينطق البشر بمثله ، ولكن لأنهم سارعوا بتكذيب الرسالة المحمدية لجوا في التكذيب وتورطوا في الإنكار حتى وقعوا فيما لم يقع فيه عربي يعرف معنى البلاغة في القول ، لذا قال تعالى:{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين39} .
{ بل} للإضراب عما حوى ما قبلها ، والإضراب عن ادعاء الافتراء ، معناه أنهم لم يقفوا في دعوى الافتراء إلا بأمر سبقه ، وهو أنهم سارعوا بالتكذيب من غير أن يتأملوا . وهذا هو قوله تعالى:{ بما لم يحيطوابعلمه} أي بما لم يعلموه علم إحاطة وفحص لحقائقه ومدى ما فيه من إعجاز بياني وما حوى من شرائع توائم العقل وتواكبه ومدى ما فيه من إنذار لمن كفر وثواب لمن آمن ، وذلك لمن يخاطب بأمر غريب لم يألفه فإنه يسارع إلى إنكاره بادي الرأي ، ثم إذا شرد عقله عن الطريق المستقيم ضل في السبل وأصبح لا يسمع منادي الصواب إذ يناديه ، وداعي الهداية إلى الحق وهو يدعوه .
وهذا نراه في أصحاب المذاهب المنحرفة إذا فوجئوا بما يخالفها أنكروه ثم حاولوا أن يجمعوا ما يؤيد ما جنحوا إليه من المنكر ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء إليهم على فترة من الرسل في الأرض العربية وقد عمتهم جهالة دينية ، فجاءهم بأنه رسول من عند الله تعالى وكان ذلك غريبا فيهم ، وجاءهم بقرآن هو معجزته فلم يتدبروه ويفهموه فجعلوا برده ، ثم ساروا من بعد في سبل الضلال .
{ ولما يأتهم تأويله} التأويل هو التفسير والفهم وفقه الكلام ومراميه ويطلق بمعنى معرفة المآل ومن ذلك قوله تعالى:{ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل فد جاءت رسل بنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا . . . 53}( الأعراف ) .
والنص القرآني يقبل تفسيرين ، بل لا مانع من الجمع بينهما:
أولهما – أنهم كذبوا ولم يحيطوا بعلمه ، والحال أنهم لما يأتهم في مداركهم وأفهامهم فقهه وما فيه من إنذار وتبشير ، وسيأتيهم لا محالة إذا تأملوه .
ثانيهما – أنهم لم يأتهم مآله ، وأنه آت لا محالة ، وأنهم كذبوا القرآن بما فيه من بعث ونشور وحساب وثواب بالجنة وعقاب بالنار وأنه سيأتيهم ، وقد وعد سبحانه ، وإنه منجز وعده .
وإن هذه الحال من المشركين هي الحال التي كانت في الأمم السابقة الذين بعث فيهم الرسل وسارعوا بتكذيبهم قبل أن يتأملوا ما أتوا به وقبل أن يعرفوا قوة المعجزة ، ثم لجوا في تكذيبهم حتى نفذ الله تعالى أمره فيهم كقوله تعالى:{ كذلك كذب الذين من قبلهم} كهذه الحال التي كان عليها المشركون من العرب في مسارعتهم إلى التكذيب واللجاجة فيه ثم المعاندة والمقاومة بالعنف من غير إدراك سليم ، وهذه الحال هي حال الذين من قبلهم فإذا تشابهت الحال فلا بد أن تتشابه النتيجة أو الأثر ؛ ولذا قال سبحانه:{ فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} أي فانظر على أي حال كانت عاقبة الظالمين كانت ريحا صرصرا عاتيا ، أو ريحا فيها عذاب شديد ، أو جعل أرضهم دكا سافلها عاليها أو خسف بهم الأرض أو غير ذلك من آيات الله الكبرى في الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحق معهم ، وإذا كان الله قد أمهل المشركين ولم ينزل بهم ما أنزل بالذين من قبلهم ؛ فلكي يستمر اختيارهم وعسى أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده .
وفي قوله تعالى:{ كيف كان عاقبة الظالمين}إظهار في موضع الإضمار ؛ لبيان أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وأنكروا حقائق ثابتة قد خلت فيمن ظلموا .