{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} هذا إضراب عن بعض ما يتضمنه قولهم ( افتراء ) وما يستلزمه- ككونهم يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يكذب ، أو أن القرآن في جملته افتراء منه ، وقد ثبت أنهم كانوا يعلمون تحريه الصدق في كل ما يقوله ، وانتقال إلى بيان موضوع تكذيبهم بظنهم أنه محال في نفسه ، وهو ما أنذرهم من عذاب الله لهم في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا له ويتبعوه ، وقد وصفهم بعدم إحاطتهم بعلمه ، أي لم يعلموه من جميع وجوهه ونواحيه ، وبأنه لما يأتهم تأويله ، أي مصداقه إلى ذلك الوقت ، مع توقع إتيانه ، وبتشبيه تكذيبهم إياه بتكذيب الذين من قبلهم بمثله ، فبين ما كذبوا به بهذه الصفات الثلاث .
فالوصف الأول:لما كذبوا به أنه ما لم يحيطوا بعلمه ، فيكون تكذيبهم صحيحا وإنما ظنوا ظنا ، والظن لا يغني من الحق شيئا ،
والوصف الثاني:قوله:{ ولَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي ولم يأتهم إلى الآن ما يؤول إليه ويكون مصداقا له بالفعل ، وإتيانه متوقع بل آت لابد منه ، وقد خبط المفسرون الفنيون في معنى هذا التأويل منذ القرون الوسطى ، لأنهم لم يفهموا القرآن بلغته الحرة الفصحى ، بل بلغة اصطلاحاتهم الفنية ولاسيما أصول الفقه والكلام .فقال بعضهم:إنهم كذبوا بما لم يفهموا معناه ، وقال بعضهم:إنهم كذبوا بما لم يظهر لهم وجه الإعجاز فيه ، ولو صح هذا أو ذاك لكانوا معذورين بالتكذيب طبعا ، وسبب مثل هذا الغلط جعلهم التأويل تارة بمعناه عند بعض المفسرين وهو رديف التفسير ، وتارة بمعناه عند المتكلمين والأصوليين ، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله في اللغة بشرط موافقته للشرع ، لتخرج تأويلات الباطنية وغلاة الصوفية .
وقد جمع الرازي كعادته كل ما رآه محتملا من هذا التكذيب في خمسة وجوه:
1تكذيب قصص القرآن ، وذكر لها ثلاث صور .
2حروف التهجي في أوائل بعض السور ؛ إذ لم يفهموا منها شيئا ، وزعم أن الله أجاب عنها آية آل عمران في المحكمات والمتشبهات .
3ظهور القرآن منجما شيئا فشيئا .
4أخبار الحشر والنشر .
5العبادات .قالوا:إن الله مستغن عن عبادتنا .
وكل هذه الوجوه باطلة لا يحتمل إرادة شيء منها إلا الرابع ، وفسر عدم إتيانهم تأويلها بجهلهم حقيقتها وحكمها ، وهو باطل ، وناهيك بحملها على الحروف المفردة في أول السور -وهي ليست بكلام فيكذب أو يصدق- ثم قال: "قال أهل التحقيق:قوله:{ ولما يأتهم تأويله} يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة ؛ لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة ، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق .أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل ، فيصير نورا على نور يهدي الله لنوره من يشاء "اه .
وهذا القول الذي عزاه إلى أهل التحقيق باطل بعيد عن الحق ، وحكم على كتاب الله بما عابه من اتباع الظن ، وما أهل التحقيق في عرفه إلا نظار علم الكلام المبتدع ، وهو ظلمات بعضها على بعض ، ما ولد البدع المضلة إلا الاشتغال به ، وهذا التأويل الذي قال فيه ما قال لا يصح في اللغة ، ولا أصل له في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في المأثور عن أصحابه رضي الله عنه ، ولا عن أئمة سلف الأمة ، كما ستراه قريبا .
وأما التأويل في لغة القرآن فله معنى واحد - لا معنى له سواه- وهو عاقبة الشيء ومآله الذي يؤول إليه ، من بيان مصداقه المراد منه بالفعل ، كما قلنا آنفا ، وبيناه بالتفصيل في تفسير آية المحكمات والمتشابهات من سورة آل عمران التي أطال الرازي في الكلام عليها ، فأخطأ محجة الصواب ، وحرم الحكمة وفصل الخطاب ، فكان أجدر بالخطأ هنا وقد التزم الاختصار ، وأوضح الأدلة على ذلك بعد ما علمت من حمله التأويل على المعنى الاصطلاحي غفلته عن نفي إتيانه بحرف لما الدال على توقعه ، إذ معناه أن تأويله لم يأتهم إلى الآن ، وإتيانه متوقع بعده ، وغفلته عن تشبيه تكذيبهم بتكذيب من قبلهم في الجملة الآتية ، والمتبادر منه أنه وعيد الله إياهم على تكذيبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ، ونصره عليهم ، وهو ما فسر الآية به إمام المفسرين أبو جعفر محمد بن جرير الطبري قال:
"يقول تعالى ذكره:ما بهؤلاء المشركين يا محمد تكذيبك ، ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه مما أنزل الله عليك في هذا القرآن من وعيدهم على كفرهم بربهم .
{ ولما يأتهم تأويله} يقول:ولما يأتهم بعد بيان ما يؤول ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن .
{ كذلك كذب الذين من قبلهم} يقول تعالى ذكره:كما كذب هؤلاء المشركون يا محمد بوعيد الله ، كذلك كذب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم "اه .
وكذلك قال البغوي في تفسير التأويل ؛ لأنه محدث فقيه غير متكلم ، وتبعهما الجلال هنا وفي آية الأعراف الآتي ذكرها .
الوصف الثالث:التشبيه الذي ذكرناه في الإجمال وهو قوله تعالى:{ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} شبه تكذيب مشركي مكة لمحمد صلى الله عليه وسلم بتكذيب من قبلهم من مشركي الأمم لرسلهم بما لم يحيطوا بعلمه قبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله الذي أوعدهم به ، كما ترى في قصصهم المفسرة في السور العديدة ولاسيما سورة الشعراء المبدوءة فيها بقوله:{ كذبت قوم نوح المرسلين} [ الشعراء:105]{ كذبت عاد المرسلين} [ الشعراء:123]{ كذبت ثمود المرسلين} [ الشعراء:141] ، ثم ذكر لفظ التكذيب في وعيدهم كقول هود لقومه:{ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} إلى قوله:{ فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية} [ الشعراء:139] الخ ، وقول صالح لقومه بعدهم إذ أتتهم آية الناقة:{ ولَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ* فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [ الشعراء:156158] الخ ، فهذا تأويله المراد من قوله هنا .
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي فانظر أيها الرسول أو العاقل المعتبر كيف كان عاقبة الظالمين لأنفسهم بتكذيب رسلهم ، وهو تأويل وعيدهم لهم ، لتعلم مصير الظالمين من بعدهم ، وهذه العاقبة مبنية بالإجمال في قوله:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا ومِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ومِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ ومِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ولَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [ العنكبوت:40] وسيأتي ما يؤيد ما قررناه كله قريبا في الآيات ( 46 و55 ) .
وقد أنذر الله قوم محمد صلى الله عليه وسلم ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا بهذه الآية وغيرها من هذه السورة وفي سور كثيرة كما أنذرهم عذاب الآخرة ، وكذبه المعاندون المقلدون في كل منهما ظانين أنه لا يقع ، لا غير فاهمين لمعناه أو لإعجازه ، ولكن قضت حكمته تعالى حفظ قومه من تكذيب أكثرهم ، وما يقتضيه من أخذ عذاب الاستئصال لهم ، وراجع إلى قوله تعالى:{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [ الأعراف:53] الخ تعلم علم اليقين أن ما قررناه هو حق اليقين الذي لا تقبل غيره لغة القرآن ، وأنه هو الذي يتفق مع سائر الآيات ، وأن ما قرره الرازي هو الباطل والضلال المبين ، الذي تدحضه الآية وما في معناها مما ذكرنا بعضه وأشرنا إلى بعض ، فعسى أن يكون قد استجاب الله دعاء شيخنا رحمه الله فينا إذ قال:
ويخرج وحي الله للناس عاريا***من الرأي والتأويل يهدي ويلهم
استطراد في المتكلمين وتفسير إمامهم الرازي
اعلم أن الفخر الرازي كان إمام نظار المتكلمين والأصوليين في عصره ، وأن علماء النظر اعترفوا له بهذه الإمامة من بعده ، ولكنه كان من أقلهم حظا من علم السنة وآثار الصحابة والتابعين ، وأئمة السلف من المفسرين والمحدثين ، بل وصفه الحافظ الذهبي -إمام علم الرجال في عصره- بالجهل بالحديث ، فلم يجد التاج السبكي ما يدافع به عنه -لأنه من أئمة الأشعرية الشافعية- إلا الاعتراف بأنه لم يشغل بهذا العلم ، وليس من أهله ، فلا معنى للطعن عليه بجهله ولا بذكره في رجاله المجرحين ولا العدول ، أما علمه بالكلام فقد قال بعض العارفين في وصف كتابه ( محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين ) ما ينبئك بحقيقته عند المحققين ، وهو:
محصل في أصول الدين حاصله***من بعد تحصيله علم بلا دين
رأس الغواية في العقل السقيم فما*** فيه فأكثره وحي الشياطين
ولشيخ الإسلام ابن تيمية مصنف مستقل في نقض ( كتابه أساس التقديس ) فيه ، ولولا أن تصدى لإحياء شبهاته في هذا العهد اثنان من مكثري النشر في الصحف للمباحث الدينية:أحدهما شيخ أزهري ، وثانيهما كاتب مدني ، لما أبدينا وأعدنا في تفنيد بدعه الكلامية المخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي يجهلانها ؛ لأن بضاعة الأول نظريات متكلمي القرون الوسطى على قلة من يفهمها منهم اليوم ، وبضاعة الثاني نظريات بعض الإفرنج ، ولما رأيا نظرية الرازي في التأويل تؤيد فهمها الباطل أراد الثاني ترويجها في سوق العامة بتسميته إمام المفسرين ، وما كان إلا إمام المتكلمين .
وأما تفسيره فقد اشتهر قول بعض العلماء فيه: "إن فيه كل شيء إلا التفسير "كما في كتاب الإتقان .والحق أن هذه مبالغة في الإنكار على ما هو الغرض الذي امتاز به تفسيره ، وهو نقل آراء الفلاسفة والمتكلمين ، وحجج المعتزلة والأشاعرة .
فلينظر القارئ المستقل الفهم كيف فعل تقليد المسلمين لهؤلاء المتكلمين في دينهم:ينقل لهم متكلم مفسر عن متكلم مجهول -زعم أنه من أهل التحقيق- أن هذه الآية من القرآن التي لم يعرف لغتها ولا معناها الناقل ولا المنقول عنه "تدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات ( التي ابتدعوها ) وقع في الكفر والبدعة "، وعلل ذلك بما هو باطل من وجوه ، نكتفي منها بما لا يخفى على عامي ذكي ولا بليد ، وهو أن المؤمن بالنصوص إذا رأى فيها ما هو متعارض فإنه إما أن يبحث عن وجوه الترجيح بين المتعارضات بمقتضى القواعد التي وضعها علماء الأصول في ( كتاب التعارض والترجيح ) ، إذا رأى أنه أهل لذلك وفي حاجة إليه ، وإما أن يترك هذا البحث إلى أهله معتقدا أنهم أعرف به ، ولا يكون هذا التعارض الصوري سببا لشكه في القرآن ، أو أنه ليس بحق مما يكون به مبتدعا أو كافرا ، ولو صح قول هذا القائل لوجب تحريم قراءة كتاب الله وكتب السنة على كل من لم يأخذ بقاعدتهم هذه ، ويتعلم علم الكلام وعلم أصول الفقه قبل تلاوته لأجلها وإن كان عالما بهدي السلف وأقوال أئمته ، وهذا تقييد لكتاب الله تعالى ، وصد عنه بتأويلاتهم المبتدعة بعد عصر النور الأول لهذه الأمة ، ويلزم به أن يحكموا على أكثر من يقرءونه بالكفر والبدعة ، والحق أن هذه التأويلات التي فتنوا بها هي المثار الأكبر للشكوك والبدع التي هي بريد الكفر ، وأن كتاب الله كله هدى ونور ، وأصح بيان له سنة النبي صلى الله عليه وسلم وخير المهتدين بها سلف الأمة وحفاظ السنة .
وجملة القول:إن مذهب السلف الصالح وجوب الإيمان بكل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه ، وما صح من وصف رسوله صلى الله عليه وسلم له على ظاهره من غير تعطيل للمعنى اللغوي يجعله كاللغو ، ولا تمثيل بتشبيه لله بخلقه يعد من النقص ، ولا تأويل يخرج الظاهر المتبادر عن معناه بمحض الرأي .
واعلم أيها القارئ أن الخواطر التي تعرض لبعض الناس مما لا يليق به تعالى لا تنقض إيمان الموقن بكتابه وصدق رسوله المتبع لهما ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة فيمن يوسوس له الشيطان:من خلق الله ؟ وفيمن أوصى بحرق جثته لئلا يبعثه الله ويعذبه .قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقالوا:إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة ( أي فحمة ) ، أو يخر من السماء إلى الأرض ، أحب إليه أن يتكلم به ؟ قال: "ذلك محض الإيمان "{[1712]} رواه مسلم ، يعني أن الوسوسة لا يسلم أحد منها ، وأن كراهة المؤمن لها دليل على إيمانه المحض الخالص .
هذا وإن كثر كبار النظار من المتكلمين قد رجعوا إلى مذهب السلف في الإيمان بظاهر النصوص ، وفي مقدمتهم إمام الحرمين كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري ( من كتاب التوحيد ) ، ومن قبله والده الإمام الجويني الذي نقل السبكي في ترجمته أن علماء عصره قالوا:لو بعث الله نبيا في هذا العصر لكان الجويني ، ومن بعدهما أبو حامد الغزالي في آخر عمره ، ونقل مثل هذا عن الفخر الرازي أيضا رحمهم الله ورحمنا ، وعفا عنهم وعنا ، وقد صرح الغزالي من قبل رجوعه إلى مذهب السلف أن علم الكلام ليس من علوم الدين ، وإنما هو لحراسة العقيدة ، كالحرس للحاج .وأقول:إنما راجت كتبه في عصرهم ، لأنها وضعت للرد على ملاحدتهم ومبتدعتهم ، ولا تنفع في الرد على ملاحدة هذا العصر ولا مبتدعته كما بيناه مرارا ، وأما تلقين المسلمين أنفسهم للعقائد وقواعد الإسلام فيجب أن يعتمد فيها على آيات القرآن والمأثور في الأحاديث وسيرة الصحابة وعلماء التابعين وأئمة الهدى قبل ظهور البدع ، ومن أكبر الضلال أن يعتمد فيها على أقوله المتكلمين ، فتجعل أصلا ترد إليها آيات القرآن المبين ، إيثار لبيانهم على بيانه .
وإن تعجب فعجب جعلهم عقيدة السنوسية الصغرى الأساس الأول لتعليم التوحيد في الأزهر وغيره ، وإنما هي نظريات كلامية غير شرعية ، وقد أخطأ مُحَشوها وشراحها في جعل التوحيد عبارة عن نفي الكم المتصل في ذات الله وصفاته وأفعاله ، أو المنفصل في أفعاله فقط ، وهي فلسفة مبتدعة لا يعرفها الشرع ولا تدل عليها اللغة .كما أخطأ مؤلفها في تفسير كلمة التوحيد"لا إله إلا الله "بلازم من لوازمها لا يتضمن معناها الذي لأجله جعلت عنوان الدعوة إلى الإسلام ، وتحكم في صفات الله بالظن الذي ذمه الله بأنه لا يغني من الحق شيئا ، فزعم أن السمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات ، يعني أنه تعالى يسمع ذوات الجواهر وأعراضها كالألوان والصفات ، ويرى الأصوات ويبصر اللغات .غافلا عن ذلك وعن قوله:{ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [ البقرة:169] ، ومع هذا زعم بعض علماء الأزهر أن إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه العقيدة في الآخرة لأولاد المسلمين ، وهو إمام الموحدين ، الذي آتاه حجته في الدنيا على قومه -وهم علماء عصره- وعلى سائر العالمين ، واطمئنان القلب بكيفية إحيائه تعالى للميتين ، فكيف يحتاج بعد كشف الحجب في الآخرة إلى نظريات السنوسي ومن فوقه من نظار المتكلمين ؟ ؟
وقد صرح السيد الآلوسي -تبعا لغيره من المحققين العارفين- بما حققناه في علم الكلام والمتكلمين - عند الكلام على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق- فقال ما نصه:( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ، ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل ، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل يكاد يقصر العلم عليهم ، فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة ، وكلماتهم متجاذبة ، فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ، ونزاع وجدال ، والوقوف على علم ذلك أمر أبعد من العيوق ، وأعز من بيض الأنوق:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها*** وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرى إلا واضعا كف حائر***على ذقن ، أو قارعا سن نادم
فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم ، أولا فلتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم ، غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد الحق إلا شكا "اه .