ثم بشر الله بعد ذلك المؤمنين وأنذر الكافرين ، فقال تعالى كلماته:
إليه مرجعكم جميعا وعد حقا انه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون4} .
بعد أن بين الله تعالى أنه خالق السموات والأرض ومن فيهن ذكر سبحانه وتعالى أنه لم يخلقهم عبثا ، بل إنه خلقهم ليعمروا الأرض ويقوموا فيها بالأعمال الصالحة وأنه سيعيدهم ويجزيهم بالإحسان إحسانا ، ومن كفر فله عذاب أليم ، وقوله تعالى:{ إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا} قدم الجار والمجرور على المبتدأ{ مرجعكم} لإفادة القصر ، أي إليه وحده المرجع والمآب كما أنه وحده الخالق المنشيء فالمرجع إليه وحده ، ثم ذكر إمكان ذلك وتقريب قدرته تعالى على رجعهم إليه وحده فقال:{ يبدأ الخلق ثم يعيده} فهذه الجملة في مقام التعليل لقوله –سبحانه-:{ إليه مرجعكم} وتقريب وقوع ذلك وقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة كما بدأ كما قال تعالى:{. . . . كما بدأكم تعودون29}( الأعراف ) ، وكقوله:{ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه . . .27}( الروم ) .
وقد بين الله تعالى أن ذلك هو النظام الذي سنه سبحانه وتعالى واختاره لخلقه فقال:{ وعد الله حقا} أي إن ذلك وعد وعده الله تعالى عندما خلق الإنسان الأول وعاداه إبليس اللعين وأنزله من جنته . وقال سبحانه:
{ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 38 والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون39}( البقرة ) .
وقوله تعالى:{ جميعا} ذكرت لبيان عموم من يعيدهم سبحانه ، فسيعود إليه البر والفاجر والمطيع والعاصي والمفسد والمصلح ، ثم ذكر سبحانه وتعالى غاية ذلك{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط}:اللام للتعليل ، أي لتعليل الرجوع إليه والإعادة بعد البدء ، وفي التعليل بيان الغاية والمآب ويتحقق وعد الله تعالى الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل ، وقد ذكر الإيمان والأعمال الصالحة كشأن بيان الله تعالى عند ذكر الثواب ولم يذكر سبحانه وتعالى الجنة والنعيم المقيم ، ولكن ذكر ما يتضمنها وزيادة فقال تعالى:{ بالقسط} أي الجزاء بالقسط فهو عدل من الله تعالى ، وعدله وفضله يوجبان الجنة وما فيها .
والرضوان والسعادة التي يتضمنها أداء الواجب هو الثواب العدل للمؤمنين الصالحين ، فهم شكروا النعمة ولم يكفروها وقابلوا فضل الله بالقيام بالواجب واعتدال النفوس وحالهم هي العدل والقسط ، ويقول البيضاوي في تفسيره{ بالقسط} أي بعدله أو عدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم ، ونرى أن هذا كله تشمله كلمة( القسط ) وليس ثمة ترديد بين واحد منها .
وبعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكر جزاء الذين يكفرون فقال سبحانه:
{ والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم}- ذكر القسط في جزاء الذين آمنوا على أنه مقابلة بين عمل صالح قويم مستقيم وجزاء عدل قويم ، وذكر ما يستحقه المنحرفون من غير أن يذكر ما يدل على أنه جزاء ، وذلك للدلالة على أن الجزاء مع عدله تفضل من الله ، وأن الكافرين حرموا من هذا الفضل ونالهم ما يستحقون ، ولبيان أن الرجوع إلى الله يقترن بالجزاء الذي هو عدل ، وأن الناس خلقوا ليقوموا بالإصلاح ، وإن الإعادة ليجازوا على هذا الإصلاح ، أما المنحرفون المفسدون فإنهم ينالون ما يستحقون بسبب انحرافهم عن الفطرة التي فطر عليها الناس . وابتدأ سبحانه بالجملة الاسمية{ والذين كفروا} وذلك فيه أمور ثلاثة مؤكدة لشدة العقاب:
الأولى – الجملة الاسمية المؤكدة للحميم .
الثانية – التعبير بالموصول الذي يعتبر أن الكفر علة الحكم .
الثالثة – اللام في قوله تعالى:{ لهم شراب} فإن اللام تفيد أنه أمر مختص بهم وليس لهم غيره .
والحميم:الحار الشديد الذي يقطع الأمعاء ، فيقال:حممت الماء أي أحمه فهو حميم أي محموم ، بمعنى مفعول إذا كان حارا حرارة شديدة تزيد عما يطيقه الجسم ؛ ولذا قال تعالى:
{ هذا فليذوقوه حميم وغساق57 وآخر من شكله أزواج58}( ص ) ، وقال:{ يطوفون بينها وبين حميم آن44}( الرحمن ) .
وذكر سبحانه سبب هذا الذي ينالهم فقال:{ بما كانوا يكفرون} جمع هنا بين الماضي والمستقبل ، ودل هذا على استمرارهم في الكفر الذي فعلوه أولا ثم استمروا مجددين للكفر آن بعد آن ، وقانا الله تعالى شر الضلال وانحراف العقول .