وتتحدث الآية التاليةكما أشرناعن المعاد ،وتبيّن في جمل قصار أصل مسألة المعاد ،والدليل عليها ،والهدف منها !.
فتقول أوّلا: ( إِليه مرجعكم جميعاً ) وبعد الاستناد إِلى هذه المسألة المهمّة والتأكيد عليها تضيف: ( وعد الله حقّاً ) ثمّ تشير إِلى الدليل على ذلك بقولها: ( إِنّه يبدأ الخلق ثمّ يعيده ) أي إِنّ هؤلاء الذين يشكّون في المعاد يجب عليهم أن ينظروا إِلى بدء الخلق ،فإِنّ من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيده من جديد .وقد مر بيان هذا الاستدلال بصورة أُخرى في الآية ( 29 ) من سورة الأعراف ضمن جملة قصيرة تقول: ( كما بدأكم تعودون ) وقد سبق شرح ذلك في تفسير سورة الأعراف .
إِنّ الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أنّ العلة الأساسية في تشكيك وتردد المشركين والمخالفين ،هي أنّهم كانوا يشكون في إِمكان حدوث مثل هذا الشيء ،وكانوا يسألون بتعجب بأنّ هذه العظام النخرة التي تحولت إِلى تراب ،كيف يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إِلى حالتها الأُولى ؟ولهذا نرى أنّ القرآن قد وضع إِصبعه على مسألة الإِمكان هذه ويقول: لا تنسوا أن الذي يبعث الوجود من جديد ،ويحيي الموتى هو نفسه الذي أوجد الخلق في البداية .
ثمّ تبيّن الهدف من المعاد بأنّه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة حيث لا تخفى على الله سبحانه مهما صغرت: ( ليجزي الذين أمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) أمّا أُولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإِنكار ،ولم تكن لديهم أعمال صالحةلأنّ الاعتقاد الصالح أساس العمل الصالحفإِنّ العذاب الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم: ( والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) .
وهنا نقطتان تسترعيان الانتباه:
1لما لم يكن لله سبحانه وتعالى مكان خاص ،وخاصّة إِذا علمنا أنّه موجود في كل مكان في جميع العوالم ،وأنّه أقرب إِلينا منّا ،فإِنّ هذه الحقيقة قد جعلت المفسّرين يفسرون ( إِليه مرجعكم جميعاً ) في هذه الآية ،والآيات الأُخرى في القرآن ،تفاسير مختلفة:
فقيل تارةً أن المقصود هو أنّكم ترجعون إِلى جزاء الله سبحانه .
وربّما اعتبر بعض الجاهلين هذا التعبير دليلا على تجسم الله سبحانه في يوم القيامة ،وبطلان هذه العقيدة أوضح من أن يحتاج إِلى بيان وإِثبات .
إِلاّ أنّ الذي يبدو بدقة من خلال آيات القرآن الكريم ،إِنّ عالم الحياة كقافلة تحركت من عالم العدم وتستمر في مسيرتها اللانهائية نحو اللانهاية التي هي ذات الله المقدسة ،بالرغم من أنّ المخلوقات محدودة ،والمحدود لا يمكن أن يكون لا نهائياً قط ،غير أنّ سيره إِلى التكامل لا يتوقف أيضاً ،وحتى بعد قيام القيامة فإِنّ السير التكاملي سيستمر ،كما أوضحنا ذلك في بحث المعاد .
يقول القرآن الكريم: ( يا أيّها الإِنسان إِنّك كادح إِلى ربّك كدحاً ) .
ويقول: ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إِلى ربّك ) .
ولما كان بداية الحركة من جهة الخالق ،حيث شعت منه أوّل بارقة للحياة ،وأن هذه الحركة التكامليةأيضاًتسير نحوه ،فقد عبّرت الآية بالرجوع .وبعبارة مختصرة فإِنّ هذه التعبيرات إِضافةً إِلى أنّها تشير إِلى أن بداية حركة عامّة الموجودات من الله سبحانه ،فإِنّها تبيّن أيضاً أنّ هدف هذه الحركة وغايتها ،هي ذات الله المقدسة .وإِذا لاحظنا أن تقديم كلمة «إليه » يدل على الحصر ،سيتّضح أن أي وجود غير ذات الله المقدسة لا يمكن أن يكون هدفاً وغاية لهذه الحركة التكاملية لا الأصنام ولا أي مخلوق آخر ،لأنّ كل هذه الوجودات محدودة ،ومسير الإنسان مسير لا نهائي .
2إِنّ كلمة «القسط » تعني في اللغة إِعطاء سهم آخر ،ولذلك فقد أخفي فيها مفهوم العدل والإِنصاف .واللطيف أنّ الآية قد استعملت هذه الكلمة في حق ذوي الأعمال الصالحة فقط ،ولم تذكرها في جزاء الكافرين والسيئي الأعمال ،وذلك لأنّ العذاب ليس على شكل الحصص والأرباح ،وبتعبير أخر فإنّ كلمة القسط تناسب الجزاء الحسن فقط ،لا العقاب .