{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون113} .
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} ، الواو عاطفة هذا النهي على النهي السابق ، وهو قوله تعالى:{ ولا تطغوا} الركون الاستناد ، فيقال ركن إلى الجدار أو الجبل أو الركن إذا استند إليه ، ويتضمن ذلك النهي الاعتماد على الظالم ، والإدهان إليه والميل إليه ، والتودد إليه ، والتقرب منه ، ومعاونته في الأمر الذي يفعله ، وقوله تعالى:{ الذين ظلموا} أي الذين وقع منهم الظلم وان لم يتصفوا بالظالمينواذا كان النهيعن مساندةالذين وقع منهم الظلم ، فأولى بالنهي من يكون الظلم عادة وسياسة مستمرة لهم ، ويلاحظ أن التعبير بالموصول فيه بيان بسبب النهي ، وهو مرفوع الظلم منهم ، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في معاونة الظاليمن:"ومن سعى مع ظالم ، فقد سعى إلى جهنم"؛ لأنه عاونه في ظلمه ، ولو أن الذين يظلمون لا يجدون من يعاونهم ، ويمانعهم ، وينصرونهم على المظلومين ما استمروا يرعونها ، حتى تكون فيها أشواك الأذى الممزقة .
ولقد وجدنا ناسا في عهد طاغوت رأيناه أشد من فرعون عتوا ، يمالئونه على المسلمين ، حتى قتل ، وآذى وقطع أطراف الشباب ، ووصل عدد قتلاه خمسة وثلاثين ألف من المسلمين غير من قتلوا تحت حر السياط والتعذيب في سجونه التي فاقت سجن الحجاج طاغية العرب عددا ، والحجاج كان عربيا ، فلم يعذب ، ولم يضرب بالسياط ، لأن مروءة العربي تمنعه .
وقد كتب الزمخشري في هذا كتابة قيمة ننقلها من تفسيره ، رضي الله عنه:"والنهي متناول الانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم ، وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم ، وتأمل قوله تعالى:{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} فإن الركون هو الميل اليسير ، وقوله تعالى:{ إلى الذين ظلموا} أي الذين وقع منهم الظلم ، ولم يقل الظالمين ، فكيف بالظالم ، وحكى أن الموفق ( أحد خلفاء العباسيين في عهد انحلال الحكم العباسي ) صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية ، فغشى عليه ، فلما آفاق قيل له ، هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم . وعن الحسن( البصري ) رحمه الله:"جعل الله الدين بين لائين{ لا تطغوا} ،{ لا تركنوا} . . . . .".
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين:
"عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن ، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك ، أصبحت شيخا كبيرا ، وقد أثقلتك نعم الله ، بما فهمك الله من كتابه ، وعلمك من سنة نبيه ، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء ، قال الله سبحانه:{. . . .لتبيننه للناس ولا تكتمونه . . . . .187}( آل عمران ) . واعلم أن أيسر ما ارتكبت ، وأخف ما احتملت ، أنك آنست وحدة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك ، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم ، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم ، يدخلون الشك بك إلى العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك ، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم:{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا59}( مريم ) ، فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل ، فداو دينك ، فقد دخله سقم ، وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد ، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ، ولا في السماء والسلام"هذا كتاب واعظ ، لتابع من أجل التابعين ، وإن كان من أصغرهم سنا .
ويسترسل الزمخشري في نقل ما قاله العلماء في الظالمين ، والذين يركنون إليهم كما نرى فيمن اتسموا بسمة العلم ، قال رضي الله تعالى عنه وقال سفيان ( الثوري ):في جهنم دار لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . . . .
وعن الأوزاعي "ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا"
وعن محمد بن مسلمة:الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من دعا لظالم بالبقاء ، فقد أحب أن يعصي الله في أرضه".
ولقد سئل سفيان الثوري ، عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقي شربة ماء ، فقال:لا . فقيل له يموت ، فقال:"دعه يموت".
رضي الله عن الزمخشري ، وإن كان لا نرضى عن فتيا سفيان الثوري الأخيرة ، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القتل بالعطش ، وهذا أمر بالإسعاف .
ولقد قال بعد النهي عن الركون إلى الظالم{ وما لكم من دون الله من أولياء} ،{ من}هنا لاستغراق النفي و{ أولياء}النصراء أي ليس لهم من الذين يعادون الله بظلمهم ، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى:{ من دون الله} أي أولياء أحباء مناصرون .
{ ثم لا تنصرون} العطف ب{ ثم} هنا ، وهي دالة على التراخي لبيان البعد بين الانتصار ، وموالاة الظالمين ، أو الركون إليهم بموادتهم ، ومعاونتهم .
اللهم لا تؤاخذنا بما كان منا للظالمين من سكوت ، في كثير من الأحيان ، اللهم هيئ نفوس حكامنا للعدل ، فإنهم أضاعوا المسلمين بظلمهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولقد قال تعالى بعد النهي عن الفساد ، آمرا بالصلاح ، لأن التخلية قبل التحلية .