التّفسير
الرّكون إلى الظالمين:
إِنّ هذه الآية تبيّن واحداً من أقوى وأهم الأسس والبرامج الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية ،فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) والسبب واضح ( فتمسكم النّار وما لكم من دون الله من أولياء ) ومعلوم عندئذ حالكم ( ثمّ لا تُنصرون ) .
ملاحظات
1ما هو مفهوم الرّكون ؟
مفهوم «الركون » مشتق من مادة «رُكن » ومعناه العمود الضخم من الحجر أو الجدار الذي يربط البناء أو الأشياء الأُخرى بعضها إلى بعض ،ثمّ اطلق هذا اللفظ على الاعتماد أو الاستناد إلى الشيء .
وبالرغم من أنّ المفسّرين أعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم للآية ،ولكنّها في الغالب تعود إلى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسّرها البعض بالميل ،وفسّرها البعض ب «التعاون » ،وفسّرها البعض ب «إظهار الرضا » ،وفسّرها آخرون ب «المودّة » ،كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير ،وكل هذه المعاني ترجع إلى الاعتماد والاتكاء كما هو واضح .
2في أيّ الأُمور لا ينبغي الرّكون إلى الظالمين ؟
بديهي أنّه في الدرجة الأُولى لا يصح الاشتراك معهم في الظلم أو طلب الإِعانة منهم ،وبالدرجة الثّانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإِسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله إلى مجتمع تابع وضعيف لا يستحق الحياة ،لأنّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإِسلامي .
وأمّا ما نلاحظه أحياناً من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الإِسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الإِسلامية وثباتها ،فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون إلى الظالمين ولم يكن شيئاً ممنوعاً من وجهة نظر الإِسلام ،وفي عصر النّبي نفسه( صلى الله عليه وآله وسلم )والأعصار التي تلته كانت هذه الأُمور موجودة وطبيعية أيضاً .
3فلسفة تحريم الركون إلى الظالمين
الرّكون إلى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على أحد بصورتها الإجمالية ولكن كلّما تفحصنا في هذه المسألة أكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة .
فالركون إلى الظالمين يبعث على تقويتهم ،وتقويتهم مدعاة إلى اتساع رقعة الظلم والفساد في المجتمعات ،ونقرأ في الأوامر الإِسلامية أنّ الإِنسان ما لم يُجبر «وفي بعض الأحيان حتى مع الإِجبار » لا يحق له أن يراجع القاضي الظالم من أجل اكتساب حقّه ،لأنّ مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من أجل إِحقاق الحق مفهومها أن يعترف ضمناً برسميته وتقواه ،ولعل ضرر هذا العمل أكبر من الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق .
والركون إلى الظلمة يؤثر تدريجاً على الثقافة الفكرية للمجتمع ،فيضمحل مفهوم «قبح الظلم » ويؤدي بالناس إلى الرغبة في الظلم .
وأساساً لا نتيجة من الركون إلى الغير بصورة التعلق والارتباط الشديد إِلاَّ سوء الحظ والشقاء ،فكيف إذا كان هذا الركون إلى الظالمين ؟
إِنّ المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه ،كما يعبر القرآن الكريم في مثل بديع في الآية ( 29 ) من سورة الفتح إِذ يقول: ( فاستوى على سوقه ) والمجتمع الحرّ المستقلّ هو المجتمع الذي يكتفي ذاتياً ،وارتباطه أو تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس رُكون الضعيف إلى القوي ،لأنّ هذا الركونسواء كان من جهة فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أو عسكرية أو سياسيةلا يخلّف سوى الأسر والاستثمار ،ولا يثمر سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خِططَهم .
وبالطبع فإنّ الآية المتقدمة ليست خاصّة بالمجتمعات فحسب ،بل تشمل العلاقة والارتباط بين فردين أيضاً ،فلا يجوز لإِنسان مؤمن أن يركن إلى أي ظالم ،فإنّه إضافة إلى فقدان استقلاله لركونه إلى دائرة ظلمه ،فسيؤدي إلى تقويته واتساع الفساد والعدوان كذلك .
4من المقصود ب «الذين ظلموا » ؟
ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات مختلة ،فقال بعضهم: المقصودب ( الذين ظلموا ) هم المشركون ،ولكنكما قال آخرونلا دليل على انحصار هذا اللفظ بالمشركين رغم أن مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو المشركين .
كما إنّ تفسير هذه الكلمة في الرّوايات بالمشركين لا يدلُّ على الانحصار ،لأنّنا قلنا مراراً وتكراراً إِنّ مثل هذه الرّوايات إِنّما تبيّن المصداق الواضح والجلي ،فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدّت أيديهم إلى الظلم والفساد ،أو استعبدوا خلق الله وعباده ،أو استغلوا قواهم لمنافعهم ،وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير ( الذين ظلموا ) .
ولكن من الواضح أن من أخطأوا في حياتهم خطأ بسيطاً وصاروا من مصاديق الظالم أحياناً غير داخلين في مفهوم الآية قطعاً لأنّه في هذه الصور لا يخرج عن شمولية هذه الآية إلاّ النادر ،فلا يصح الرّكون والاعتماد على أي شخص ،اللّهم إلاّ أن نقول: أنّ المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة ظلمه وجوره ،وفي هذه الحال حتى الذين تلوّثت أيديهم بالظلم مرّة واحدة لا يجوز الركون إِليهم .
5إِشكالٌ
طرح بعض المفسّرين من أهل السنة إِشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من ( أولو الأمر ) أيّاً كان ،لما نقلوا حديثاً عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وجوب طاعة السلطان «وإِن أخذ مالك وضرب ظهرك ...» !وروايات أُخرى تؤكّد طاعة السلطان بمعناها الواسع .
ومن جهة أُخرى تقول الآية: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) فهل يصحّ الجمع بين هذين الأمرين ؟!
أراد البعض أن يرفع هذا التضاد باستثناء واحد ،وهو أن طاعة السلطان تكون واجبة ما لم ينحرف إلى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر .
ولكن لحن تلك الرّوايات لا ينسجم مع هذا الاستثناء .
وعلى كل حال فنحن نعتقدوكما ورد في مذهب أهل البيت( عليهم السلام )بوجوب طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح أن يكون خليفة عامّاً للنّبي وإِماماً من بعده فحسب .
وإذا كان سلاطين بني أُميّة وبني العباس قد وضعوا الأحاديث في هذا المجال لمصلحتهم ،فلا تنسجم بأي وجه مع أُصول مذهبنا والتعليمات القرآنية ،وينبغي أن نعالج هذه الرّوايات ،فإن كانت تقبل التخصيص خصّصناها ،وإِلاّ طرحناها جانباً ،لانّ كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة ،والقرآن يصرح أنّ إِمام المسلمين لا يجوز أن يكون ظالماً ،والآية المتقدمة تقول بصراحة أيضاً: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ...أو نقول: إِنّ أمثال هذه الرّوايات مخصوصة بالحالات الضرورية والاضطرارية .