{ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير112} .
{ فاستقم} السين والتاء للطلب ، أي اطلب إقامة الدين ، وحفظ جوارحك الظاهرة والباطنة في دائرة القيام به ، وإدراك غاياته ومراميه ، وقوله تعالى:{ كما أمرت} الكاف للتشبيه والمعنى اجعل أعمالك ومرام نفسك وقلبك كما أمرت أي كما أنزل الله تعالى ، وبني للمفعول لأن الفاعل معلوم حاضر في الذهن دائما ، ولأن الاستقامة توجب اتباع الأوامر في ذاتها{ ومن تاب معك} ، فقوله تعالى:{ ومن تاب معك} معطوفة على الضمير في استقم ، وإنما جاز النطق على الضمير المستتر في الخطاب من غير أن يؤكد بالضمير البارز للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو بقوله تعالى:{ كما أمرت} ، فيكون عدم إبراز ضمير الخطاب مناسبا للنسق .
وإن الاستقامة هي غاية الكمال الديني ؛ لأنها القصد إلى الهدف الأسمى ، ولأنها روح الإسلام وغايته ، وقد قال بعض الصوفية:إن الاستقامة هي مطلب الصوفي الأمين على حقوق الإيمان ، وروى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي ، قال قلت:يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحد بعدك قال:"قل آمنت بالله ثم استقم"{[1319]} ، روى عن عبد الله بن عباس أنه قال لمن استوصاه:"عليك بتقوى الله والاستقامة".
ولقد قال تعالى:في بيان الاستقامة أن أعلى درجات الإيمان:{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون30}( فصلت )إلى آخر الآيات .
وقوله{ ومن تاب معك} أي الذين معك من المسلمين ، وعبر عنهم بأنهم تابوا للإشارة إلى أن إسلامهم لا يكون كاملا إلا إذا كانوا مع الله تعالى ، وإلى أن الإسلام توبة عن الشرك ، وإن الشرك انحراف في النفس ، وتركه رجوع إلى اللهتعالى وان الاستقامة تهذيب الروح واتجاه النفسوقد نهى عما يؤدي الى الانحراف عن الاتجاه المستقيم ( ولا تطغوا ) فيه ان النفس تنحرف عن الجادة والطريق الأقوم بالطغيان ، وهو مجاوزة الحد ، ومجاوزة الحد قسمان:
القسم الأول:التشدد في الدين الذي يؤدي إلى إرهاق النفس ، وإن إرهاقها يؤدي إلى التقصير ، ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الاعتدال ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:"لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه ، ولكن سددوا وقاربوا"، وقال:"أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"{[1320]} .
والقسم الثاني من الطغيان:الظلم ، ومجاوزة الحد مع غيره ، وإن هذا المعنى مناسب للآية بعد ذلك . ولقد بين سبحانه وتعالى أنه مراقب العباد ، ومجازيهم فقال:{ إنه بما تعملون بصير}الضمير يعود على الله تعالى أي أنه تعالى عليم بما يعلمون علم من يبصر ويرى ، وقدم الجار والمجرور{ بما تعملون} على{ بصير} للاهتمام بالعمل ، وإنه مناظر الجزاء ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وإن الاستقامة هي أقصى درجات الإحسان ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان:"الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ،فإنه يراك"{[1321]} .
كان في هذه الآية النهي عن الظلم ، ثم أردفها بالنهي عن الارتكان إلى ظالم ، فقال: