{فَاسْتَقِمْ}: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة ،وأن لا يعدل يميناً ولا شمالاً .
{تَطْغَوْاْ}: الطغيان: تجاوز المقدار في الفساد .
...وهكذا يريد الله للمسيرة الجديدة ألاّ تنحرف كما انحرف أتباع الرسالات السابقة ،بل أراد أن تسير في خطها المستقيم الذي رسمه الله للناس على صعيد الفكر أو العمل أو الموقف أو العلاقات ،فلا يتجاوزونه إلى غيره ،ولا يبتعدون فيه إلى الحد الذي ينفصلون به عن القاعدة الثابتة .وهذا ما أكّده الله في أكثر من آية حين اعتبر الاستقامة أساساً للشخصية الإسلامية ،كما أنها التزام بتوحيد لله في القاعدة ،ثم هي استقامةٌ على هذا الخط في كل شيء ،فكل الحياة في مناهجها وأساليبها وعلاقاتها ترتبط به ،لأن الفكر والعمل ،يتحركان بين خط الشرك وبين خط التوحيد ،فلا مجال أمام الإنسان سوى اختيار أحدهما ،فمن انحرف عن خط التوحيد وجد نفسه في خط الشرك ،ولذلك كانت الاستقامة لا تعني للإنسان المسلم شيئاً آخر سوى الالتزام بخط التوحيد في حركة الفكر والعمل .
من هنا جاءت دعوة الله إلى النبيّ وإلى المؤمنين للاستقامة في قوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} من المؤمنين الذين اتّبعوك وتركوا الشرك ،لأن ذلك يمثل معنى الإخلاص لله ،بالسير في خطّ رضاه ،{وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم ،كما تجاوزها الآخرون ،في تحريف المفاهيم ،وتغيير الأفكار ،وإرباك الأهداف .
الرسول مكلف كسائر المؤمنين
ولعلّ في هذا الأمر الموجّه للنبي وللمؤمنين معاً ،إيحاءً بأن النبي لا يختلف عن المؤمنين في المسؤوليات التفصيلية لخط السير ،لأنه يتحرك في حياته ،بصفته المسلم الأوّل الذي لا بد أن يطبّق الإسلام على نفسه ،قبل أن يدعو إليه ،ليكون الداعية بالقدوة ،قبل أن يكون الداعية بالكلمة ،وبهذا يمكننا استيحاء الردّ على الذين يفرضون للنبيّ تكليفاً غامضاً يختلف عن تكليف بقية المسلمين ،فيرون أننا لا نستطيع اعتبار أيّ عمل يقوم به ،لا سيما في خط الجهاد ،لأنه أعرف بتكليفه الشرعي الذي قد لا نعرفه .
إننا نستوحي من هذه الآيات وغيرها ،أنّ الله يخاطبه كما يخاطب غيره ،لأنه مسؤول عما هم مسؤولون عنه ،إلا أنه يختلف عنهم بصفة القيادة الرسالية والحاكمية ،التي تجعل مسؤولياته أكثر ثقلاً من مسؤولياتهم ،ولكنها لا تبتعد عن الخطوط العامة للتشريع في مجال الدعوة والحكم ،ولولا ذلك لما كان هناك معنى للقدوة التي ترى في سلوكه شريعةً ،كما هي الكلمة منه شريعةٌ ورسالة .
حذار الخلط بين الكفر والإسلام
وهذا ما نريد أن نثيره في حركة العاملين في سبيل الله ،في خط الدعوة إليه ،أو الجهاد ضد الكفر أو الانحراف ،وذلك أن يلتزموا خط الاستقامة في الفكر ،أمام عوامل الانحراف المتنوّعة التي تحاول أن تتجه بالفكر الإسلامي ،إلى خطوط كافرة أو قريبة من خط الكفر ،تحت واجهات غائمة لا تملك من عناصر الأصالة والوضوح الشيء الكثير ،بل تثيربدلاً من ذلكالكثير من الشكوك والشبهات التي تخضع لكثير من أساليب الالتواء والانحراف ،وذلك في ما يحاول العابثون من الخلط بين الكفر والإسلام ،في مزيج من الأفكار التي تحمل مضمون الكفر في إطار الإسلام .إنَّ عليهم الانتباه إلى ذلك بدقّة وحذر ،لئلا ينحرفوا من حيث يريدون الاستقامة ،فيعطوا الانحراف قداسة الإسلام .
وهذا ما وقع فيه بعض العاملين تحت تأثير المتغيرات الفكرية والسياسية والاجتماعية التي فرضت نفسها على الساحة الإسلامية بدخول بعض التيارات الكافرة والمنحرفة في حركة الواقع ،حيث كان لتلك التيارات تأثير على فكر العاملين وطريقتهم في فهم الواقع والتحرك معه ،فأحدث ارتباكاً وتعقيداً في حركتهم ،وأدخل بعض المفاهيم الكافرة ،في صلب منظومة المفاهيم الإسلامية ،كما نلاحظ في تطعيم الإسلام بالديمقراطية والاشتراكية والماركسية في بعض الأحيان ،أو في إخضاع حركة الفكر الإسلامي للتيارات الفلسفية اليونانية ،وما إلى ذلك .
الانسجام بين الفكر والأسلوب
وكما هو الحال في خط الفكر ومضمونه ،لا بد من التزام خط الاستقامة في المنهج والأسلوب ،باعتماد الأحكام الشرعية في أسلوب العمل ،ومنهج التحرك ،لأنه من الممكن أن يتأثر العاملون بأساليب العمل ،ومناهج تفكير التحرك التي يستخدمها الكافرون والضالون في مساعيهم للسيطرة على الواقع عملياً ،ومقدرتهم بفضل ذلك على إخضاع الأجواء لأساليبهم ونهجهم في العمل .وهذا ما يفرض على القيادات الفاعلة أن تخطط للتحرك بطريقة تحقق الانسجام بين الفكر والأسلوب ،ليعينوا العاملين على معرفة الخط المستقيم في الوسائل ،كما يعرفون الخط المستقيم في الغايات ،لأن الجهل يدفع الناس إلى الضلال باسم الهدى فيتجاوزون الخطوط المرسومة لهم من قبل الله الذي يراقبهم في معاناتهم في سبيل المعرفة والممارسة ،أو تقصيرهم فيه ،{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يخفى عليه شيء من سرّهم وعلانيتهم ،ولا حجة لهم في تبرير ما يعملون أمامه كما يفعلون أمام الآخرين الذين يجهلون واقع الأمور ،وحقائق الأشياء .