الوصف الخامس والسادس والسابع والثامن من صفات المؤمنين ، وهو من مقتضيات الإيمان:الصبر ، وما بعده ، قال تعالى:
{ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ( 22 )} .
ذكرت هذه الآية أربع خصال للمؤمنين ، أولها:الصبر ابتغاء وجه الله تعالى ، وإقامة الصلاة والإنفاق من رزق الله تعالى ، ودرء السيئة بالحسنة .
أما الصفة أو الخصلة الأولى:وهي الصبر ابتغاء وجه الله ، فإن معناها ضبط النفس عن الشهوات ، وتسيطر على منازع النفس فتقوى الإرادة ، وتكون الأهواء أمة لها ، ولا تكون سيدا عليه ، وإن الصبر في المصائب التي تنزل ، والإصرار على الوقوف عند أمر الله تعالى ونهيه ، ولقد فسر ابن كثير الصبر ابتغاء وجه ربهم بقوله:"الصبر عن المحارم والمآثم ، فقطعوا أنفسهم عنها لله عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه"وفسره الزمخشري بقوله:"{ صبروا} مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ، ومشاق التكليف ابتغاء وجه الله ، لا ليقال ما أصبره ، وأحمله للنوازل ، وأوقره عند الزلازل ، ولا لئلا يعاب بالجزع ، ولا لئلا يشمت به الأعداء كقول القائل:( وتجلدي للشامتين أريهم ){[1353]} ، ولا لأنه لا طائل تحت الهلع ، ولا مر فيه للفائت كقول القائل:
ما إن جزعت ولا هلع ت ولا يرد بكاي زندا
فكل عمل له وجوه ، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما كان حسنا عند الله ، وإلا لم يستحق ثوابا ، وكان فعل كل فعل"ا .ه{[1354]} . قيل هذا الكلام بليغ ، وفيه بيان متى يكون الصبر ابتغاء وجه ربه ، ومتى لا يكون ، وإنه بلا ريب كلام حق ، ولكني أريد عليه ، بأن كلمة:{ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} لا بد أن يكون في موضع معين يكون الصبر فيه ابتغاء وجه الله ، أي يبيع المؤمن نفسه لله تعالى صابرا محتسبا ، وهو الجهاد ، فهذه الجملة السامية أو الخصلة الكريمة مع أنها تفيد أن الصبر في كل أحواله خير ، وخصوصا إذا لم تقصد به المفاخرة ، كما جاء على لسان بعض الشعراء ، فإن الأخص هو الصبر في الجهاد ، يدفع نوازع النفس ، وبالتقدم للميدان رجاء ما عند الله تعالى ، والصبر في كل أحواله خير .
ومعنى{ ابتغاء وجه ربهم} أن يطلب رضا ذات الله تعالى العلية عليه . وعبر بالوجه عن الذات ؛ لأنه في أصل معناه اللغوي ما يواجه الإنسان .
والخصلة الثانية:إقامة الصلاة ، أي الإتيان بها مستوفية الأركان ، وبخشوع وخضوع ، وبأداء حقيقة معناها الناهية عن الفحشاء والمنكر ، كما قال تعالى:{. . .إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . . . ( 45 )} [ العنكبوت] ، وإن الصلاة إذا أقيمت لقويت النفس ، وناجى المؤمن ربه حق المناجاة ، وقرب من ربه ، وامتلأت نفسه به ، وصار قلبه نورا ، وفكره نورا ، واستقامت نفسه وقلبه .
والخصلة الثالثة:كما قال تعالى:{ وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية} ، وقوله تعالى:{ مما رزقناهم} معناها:إنفاق بعض ما رزقناهم ، أي من حلال مكاسبهم ، فالكسب الحلال رزق من الله ، وإضافة الرزق إلى الله تعالى يقتضي أولا ما ذكرنا وهو أن يكون حلالا ، ويعتبر ثانيا أن المال مال الله تعالى فهو الذي رزق ، وما تكلف من إنفاق إنما هو مما أعطاك ، فقد أعطاك لتنفق ، فهو ابتلاك بالمال لتنفقه وتشكر ، وابتلى غيرك بالفقر ليصبر ، والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .
وقوله:{ سرا وعلانية} ولكل حال فضلها ، ففضل السر الستر على من يعطيه ، وألا يكون تفاخرا ، وأن يكون العطاء لوجه الله لا رياء فيه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تصدق يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائى فقد أشرك"{[1355]} ، وفي العلانية فضل أحيانا كأن تحرض الناس على العطاء ، وأن يمنع الاتهام بالشح ليقي نفسه منه .
والخصلة الرابعة:بينها سبحانه وتعالى بقوله:{ ويدرءون بالحسنة السيئة} .
( درأ ) بمعنى دفع ، ومن ذلك بقوله تعالى في اللعان:{ ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( 8 )} [ النور] .
ودرء السيئة بالحسنة فسرها المفسرون بأنه دفع الإساءة بالإحسان ، ومقابلة الحرمان بالإعطاء ، والقطيعة بالوصل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"{[1356]} ، وقد روى عن ابن عباس أنه قال في معنى هذه الآية:يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم ، وعن الحسن البصري:إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا .
وجملة هذه المعاني تتجه إلى نشر التسامح ، ومنع مبادلة السوء بالسوء حتى لا يؤدى ذلك إلى التقاطع والتدابر ، وأن يكون بأن المسلمين بينهم شديدا ، وهذا هو ما أمر الله تعالى به منعا للعداوة ، فقد قال تعالى:{ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( 34 )} [ فصلت] .
هذا معنى سليم مستقيم ، ويصح أن نقول:إن معنى قوله تعالى:{ ويدرءون بالحسنة السيئة} ، أن الإكثار من الحسنات يدفع السيئات ؛ ذلك أن الحسنات طهارة للنفس ، والطهارة تزيل أخباث النفس ، كما قال تعالى:{. . .إن الحسنات يذهبن السيئات . . . ( 114 )} [ هود] فإن السيئات تخط في القلب خطوطا ، والحسنات تزيلها ، أو تذهب بنكتها السوداء ، ويصح أن يراد المعنيان . ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الحسنة تمحو السيئة فقال صلى الله عليه وسلم:"وأتبع السيئة الحسنة تمحها"{[1357]} .