وإن كل زمان له معجزته كما ذكرنا ، فلا تكون آية صالحة لكل زمان ، وإن الله تعالى يمحو كل معجزة إلا في زمنها ؛ ولذا قال تعالى:{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ( 39 )} .
يمحو الله من الآيات ما يشاء منها ، ويثبت ما يشاء محوه منها ، ويبث ما شاء منها فإذا كانت العصا معجزة في عصر موسى ، وأقامت الدليل على رسالة موسى عليه السلام ، فإن الله تعالى نسخها ، ولا تكون آية لإتيان رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويثبت له آية أخرى ، وهي القرآن الكريم ، وإذا كان عيسى له آيات خرقت نظام الأسباب والمسببات ، فقد نسخها الله تعالى ، وأثبت لمحمد معجزة أخرى تناسب رسالته ، وتبقى ببقائها ، فيثبتها الله تعالى .
هذا ما نراه تفسيرا للمحو والإثبات ، ونرى أنه يمكن أن يكون التفسير الذي يتسق مع ما قبلها وما بعدها من الآيات ، فالكلام في الآيات التي يطلبونها إعناتا وعنادا .
وقد قال الزمخشري عدة معان تحملتها الجملة السامية ، وهذا نص ما قاله:"إنه يقول يمحو ما يشاء ويثبت ، أي يأتي من الشرائع بما شاء ، وينسخ منها ما يشاء ، وعنده أم الكتاب الأصل الذي لا يمحى ، ولا يقبل المحو ، وهو التوحيد ، فشرائع النبيين ينسخ بعضها بعضا ، ولكن الأصل قائم ، وهو أم الكتاب"، أي الشرع المكتوب المقرر في كل الشرائع ، وهو التوحيد ، كما قال تعالى:{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه . . .( 13 )} [ الشورى] .
وإن هذا يتسق مع قوله تعالى:{ وعنده أم الكتاب} .
ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى:{ يمحو الله ما يشاء ويثبت} ، ينسخ ما يستوصب نسخه ، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو يتركه غير منسوخ ، ويسوق أقوالا أخر .
وإنا نرى أن هذين الوجهين كافيان في البيان ، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون المحو ، بإلغاء آيات مادية ، والإثبات إثبات أخرى ، وأن تكون الشرائع السماوية التي جاءت بها الرسل ، ينسخ بعضها بعضا ، ولكن يبقى الأصل القائم وهو أم الكتاب ، وهو التوحيد ، والعدل ، وإقامة الحق ، والإصلاح في الأرض .
وقد قال الفخر الرازي في التفسير الكبير ما نصه:
"العرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له ، ومنه أم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب".