وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما ينزل بهم من وعده الذي أنذرهم به .{ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ( 41 )} .
قال ابن عباس في معنى ذلك النص الكريم:"أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض ونقصان الأرض من أطرافها ، اقتطاعها جزءا جزءا من سلطانهم ، وذلك بحروبهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن عذاب الله تعالى الذي ينزله في الكافرين جزاء كفرهم يكون بأحد أمرين ، إما اجتثاثهم من الأرض ، وأخذهم من حيث لا يحتسبون بريح عاصف أو بخسف يجعل عالي ديارهم سافلها ، أو بطرق يحيط بهم فلا يبقى ولا يذر ، وحيث لا يكون من أصلابهم من يعبد الله ، وقد أوقع الله تعالى هذا بالذين بعث فيهم الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم من نوح وهود ، وصالح ، وشعيب .
والأمر الثاني:أن يكون ذلك بالمغالبة ، يقاتلون ، فيقتلون ، ويقتلون ، والعاقبة للمتقين ، وإن ما نزل بمشركي مكة ، واليهود كان من الثاني لا من الأول ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن لأرجو أن يكون من أصلابهم من يؤمن بالله واليوم الآخر".
ويقول تعالى:{ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي ، ونفي النفي إثبات ، فالاستفهام الإنكاري داخل على "لم"والمعنى التنبيه على ما هو واقع بهم ، والواقع أنهم يرون أن الله أتى الأرض ينقصها من أطرافها عليهم ، وإسناد الإتيان للأرض إلى الله تعالى للدلالة على أن الله تعالى مع جيش المسلمين الذي يأتي الأرض التي لهم النفوذ ، والسلطان فيها ، ويتلاقون مع سكانهم في الشرك الذي يجمعهم و{ ننقصها} نأخذها جزءا فجزءا من دائرة الكفر ، حتى تضيق حوزتهم ، وتضيق الدائرة عليهم شيئا فشيئا حتى يحيط بهم ، ويصلح الرسل من الأرض ، وكذلك كان الأمر ، فقد كانت الغزوات والسرايا تنزل بالمشركين ، وقد ذهبت إلى ما حول مكة وأطراف الجزيرة داعية إلى الله تعالى مجاهدة ، فكانت الأرض تنقص من نفوذهم من أطرافها ، بسببين:
أولهما:وهو أن دعوة الإسلام تدخل إلى قلوبهم من يسرى إليهم ثلة من جنود المسلمين ، وفي ذلك نقص من سلطانهم ، وخروج من نفوذ مكة وأهلها .
ثانيهما:أنه يقتل من المشركين عدد ، وإن لم يكن كثيرا ، إلا أنه يبعدهم عن مكة وأهلها .
وإن إتيان الله للأرض إتيان لقوة الله قوة الحق والإيمان فهو سبحانه يأتي القلوب فتزمن ، ويعمرها بالإيمان ، وكل عمران بالإيمان ، نقص للأرض من سلطان الكفار .
وإذا دخل الإسلام أرضا كان هو الحكم وحده ، لا معقب لحكمه ، أي لا يخرج منه ويجئ عقبه حكم غيره ، فالإيمان الصادق إذا دخل النفوس لا يخرج منها لأنه يكون به سكونها واطمئنانها وقرارها .
وقد قال الزمخشري ، وهو ابن نجدتها{ لا معقب لحكمه} لا راد لحكمه ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله ، وحقيقة الذي يعقبه بالرد والإبطال ، ومنه قيل لصاحب الحق ، معقب لأنه يعفى غريمه بالاقتضاء والطلب ؛ لذا قال لبيد:"طلب المعقب حقه المظلوم"، والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس .
ومعنى قوله تعالى:{ والله يحكم} ، أي الله وحده يكون الحاكم للنفوس ، وليست الأهواء المتحكمة ، ولا قهر الأقوياء للضعفاء ، إنما هو الرحمة والعدل ، ولا حكم يتعقبه .
ويكون للذين كانوا يسيطرون الحساب ، وإنه لقريب ، وإنه لسريع ؛ ولذا قال تعالى:{ وهو سريع الحساب} ، أي أن الحساب آت لا ريب ، وكل آت فهو سريع ، لأنه مؤكد الوقوع ، وعدد السنين والشهور لا قيمة له ما دام مؤكد الوقوع ، وما يكون سريع الحساب يكون شديد ؛ لأنه يفاجئ المنكرين من حيث لا يحتسبون ؛ ولأن سرعة الحساب يكون لأجل غرض العقاب ، ولتحقيق معنى الجزاء ، وذلك يكون على قدر ما ارتكب المسئ ، والله عزيز ذو انتقام .