قال الله تعالى:
وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم بتكسب كل نفس وسيعلم الكفر لمن عقبى الدار ( 42 ) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتب ( 43 )
المكر العمل على صرف غيره عن مقصده بحيلة ، وأنه يأخذ وصف الذم والحمد ، من المقصد الذي قصد الصرف ، فإن كان ذلك القصد مذموما ، فالصرف عنه خير ، ما لم يكن السبيل ذاته شرا ، وإن كان القصد محمودا ، فالصرف عنه مذموم ؛ لأن الصرف عن المحمود يوجب الذم .
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى:{ وقد مكر الذين من قبلهم} الضمير يعود إلى المشركين ، أي مكر الذين من قبلهم الذين ساروا هم على سننهم ، وضلوا ضلالا بعيدا مثلهم ، ولا شك أن من هذه حالهم مكرهم يكون لتحويل الناس عن إطاعة النبيين ، وصرف النبيين لهم عن اتباعهم ، وذلك بطرق التدبير السيء المختلفة من اضطهاد وأذى وسخر بهم ، وقيل لهم أحيانا ، والشتم والذم في أكثر الأحيان ، فقد سخر قوم نوح منه وممن تبعه ، وقالوا ما اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأي ، وكذلك قوم هود وقوم صالح ، وآل مدين قوم شعيب .
وذكر هذا الخبر للمشركين لبيان أنهم لن يضيروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه مكرهم إلى هباء ، ولا يعد شيئا بجوار مكر الله تعالى ، والتدبير للمؤمنين لينجوا من شرهم ؛ ولذا قال تعالى:{ فلله المكر جميعا} ، أي لله وحده التدبير الذي يحول القلوب ، وقد دل هذا النص السامي على ثلاثة أمور:
الأمر الأول:أن مكرهم لا اعتداد به ، ولا ثمرة له في تحقيق الغاية التي أرادوها ، وهو تحويل الناس عن عقائدهم إذا آمنوا بها .
الأمر الثاني:أن القلوب بيد الله ، وهو الذي يهديها ، وهو الذي يتركها تسير في مهواة الضلالة ، حتى تنهوي فيها .
الأمر الثالث:أن الله مذهب كيدهم ، وجعلها في هباء ، وناصر أهله .
وإن الله تعالى تدبيره منتج مثمر لا محالة ؛ لأنه يعلم ما تكسب كل نفس من خير أو شر ، وتتحدث به النفوس ، وما تكسبه الجوارح ، وهو وحده مقلب القلوب .
قلنا:إن ذكر مكر السابقين لبيان العبرة للمشركين الذين عاندوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومحاولتهم فتنة المؤمنين لتحويلهم عن دينهم الذين ارتضوه ، وفيه إشارة إلى بطلان مكرهم ، وإلى أن مكر الله فوقهم ، وأنهم إذ يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إنما يقاومون بمكرهم مكر الله وتدبيره للمؤمنين أوليائه ؛ ولذا قال تعالى مهددا لهم:{ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} الكفار ( ال ) فيها للعهد ، أي كفار العرب من مشركين ويهود ، ومن لف لفهم والسين لتأكيد وقوع الخبر في المستقبل ، والعلم الذي سيعلمونه علم معاينة ، لا علم خبر وإخبار ، إن تتوالى عليهم الهزائم هزيمة بعد هزيمة حتى تصير الأرض العربية كلها تحت ظل الإسلام الظليل ، ويخرج المشركون من رجس الوثنية ، والفساد اليهودي المنحرف ، وتكون الكلمة العليا لله ولرسوله ، وللمؤمنين ، ومن بقى على كفرهم يعلم علما آخر بعقبى الدار في جهنم للكافرين ، والجنة للمؤمنين .
وقوله:{ لمن عقبى الدار} لمن جار ومجرور ، والمعنى لمن تكون عقبي الدار ، أي عاقبة هذه الحياة الدنيا التي تكون فيها هذه المغالبة بين الحق والباطل ، والكفر والإيمان ، وإن العقبى هي غلب الإيمان في الدنيا ، والجنة لمن آمن في الآخرة ، والنار لمن عصى ، والله سبحانه وتعالى أعلم .