ولقد اشتد المشركون في الإنكار ، ومالأهم على ذلك اليهود .
{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ( 43 )} .
ذكر سبحانه بعض مكر المشركين وغيرهم التي يقصدون بها تحويل المؤمنين وفتنتهم عن دينهم ، فذكروا أنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:{ لست مرسلا} ، فهم يسلمون بأن لله رسالة ، ولكن لست من أصحابها ، فالله لم يرسلك ، وهم بهذا ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وينكرون أن يكون له معجزة دالة على هذه الرسالة ، ويريدون آيات أخرى غير القرآن ، إذ لا يعدون القرآن آية ، وما كان للنبي أن يأخذ كلامهم أخذ من يعتبره ، وقد قام الدليل عليه بالتحدي ، وإدراك أهل الذكر منهم ما فيه من نسق ، ووثيق نظم ؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم:{ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} ، أي كفا الله شهيدا بيني وبينكم ، فهو الحق وشهادته الحق ، وليست شهادته كلاما يردد ، ولكن شهادته معجزة تفحم ، وقد جاءت الخوارق تترى بشهادة الحق في كل ما ترون من حياته ، وما أحاط بها ، وما دبرتم وقد رد تدبيركم في نحوركم ، وقوله تعالى:{ كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} فيه تهديد لهم بما يكون إنكارهم من عواقب وخيمة عليهم تنصر أهل الحق .
ويصح أن تقول:{ شهيدا} معناه حاكم ؛ لأن الشهادة تجئ بمعنى الحكم ، كما في قوله تعالى:{. . .وشهد شاهد من أهلها . . .( 26 )} [ يوسف] ، والمعنى وكفى بالله حاكما بيني وبينكم ، ويرشح لهذا المعنى عبارة بيني وبينكم ، فالحكم هو الذي يكون بين اثنين ، وأما الشهادة فتكون لأحد الفريقين على الآخر .
وقوله تعالى:{ ومن عنده علم الكتاب} الكتاب إما أن يراد جنس الكتاب ، ومن عنده علم الكتاب هو العالم بالكتب السماوية قبل تحريفها ، فإنها تشهد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتحكم بأنه رسول ، وهذا التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، ولا يزال آثاره معها باقية إلى يوم القيامة تعرف برموزها لمن عنده علم بالكتاب ، هذا إذا كان المراد جنس الكتاب ، ومن عنده علم بكتاب أهل الفقه المخلصين من الكتابين .
وإذا أردنا الكتاب وكانت ( ال ) للعهد ، يكون المراد هو القرآن الكريم ، ومن عنده علم القرآن هو العليم بأساليب الكلام العربي يعرف شعره ورجزه ، وإرساله ونثره ، ويعرف ما في الكلام ، كما روى عن فصحاء العرب ، فإن هؤلاء يشهدون بإعجازه كما يقول قائلهم:إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما يقول هذا بشرا ، وإنه ليعلو ، ولا يعلى عليه .
هذا وإني أرى الوجه الثاني ، وكلاهما عميق في معناه .