عطف على ما تضمنته جملة{ وقد مكر الذين من قبلهم}[ الرعد: 42] من التعريض بأن قولهم:{ لولا أنزل عليه آية من ربه}[ سورة الأنعام: 37] ضَرْب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول ،مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب .فذكرت هذه الآيةُ أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا:{ لست مرسلاً} .
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق ،كما عبر بالمضارع في قوله تعالى:{ ويصنع الفلك}[ سورة هود: 38] وقوله:{ يجادلنا في قوم لوط}[ سورة هود: 11] .
ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم .
وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع .
ولما كانت الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم .
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود عليه السلام{ إنّي أشهد الله}[ هود: 54] .
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كفى} في المعنى للتأكيد وأصل التركيب: كفى اللّهُ .و{ شهيداً} حال لازمة أو تمييز ،أي كفى الله من جهة الشاهد .
{ ومن عنده علم الكتاب} معطوف على اسم الجلالة .
والموصول في{ ومن عنده علم الكتاب} يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة .والمعنى: وكل من عندهم علم الكتاب .وإفراد الضمير المضاف إليه{ عِنْدَ} لمراعاة لفظ{ من} .وتعريف{ الكتاب} تعريف للعهد ،وهو التوراة ،أي وشهادة علماء الكتاب .وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة .
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّناً ،فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام كما في حديث بدء الوحي في الصحيح .وكان ورقة منفرداً بمعرفة التوراة والإنجيل .وقد كان خبر قوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفاً عند قريش .
فالتعريف في{ الكتاب} تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل .
وقيل: أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمهِ المدينة .ويبعده أن السورة مكية كما تقدم .
ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجدانهم البشارة بنبيء خاتم للرسل صلى الله عليه وسلم ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقاً لسنن الشرائع الإلهية ومفسراً للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به .ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب{ من عنده علم الكتاب} دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم .قال تعالى:{ أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}[ سورة الشعراء: 97] .